لم يكن «الإصلاح»، في أي يوم من الأيّام، مطروحاً بجدّية كما هو مطروح اليوم في لبنان. ولكن أي «إصلاح»؟ وأي خطاب يسوّق له؟ ولمصلحة من؟توجد نظريتان مُهيمنتان في مواجهة الأزمة الاقتصادية المُتفاقمة: الأولى، تعتبر أن إنفاق الدولة العامّ وعجزها المالي مصدر كلّ العِلل. والثانية، لا توافق النظرية الأولى تماماً، وتعتبر أن الأزمة تكمُن في بنية الاقتصاد اللبناني، ولكن تفاقم هذه الأزمة بات يهدّد بخفض سعر صرف الليرة أو التوقّف عن سداد الدَّين، لذلك تدعو إلى القبول ببذل المزيد من التضحيات من الجميع من أجل درء هذه المخاطر، كأولوية مُطلقة، ومن بعدها يمكن البحث في أسباب الأزمة نفسها والمسؤوليّات المُترتبة عليها وكيفية التعامل معها.
تأتي وصفة «التقشّف»، التي تجسّد لبّ الخطاب الإصلاحي الرائج، كما لو أنها نقطة التقاطع بين المصالح التي تعبّر عنها كلّ من هاتين النظريتين، فهي تلبّي مطالب الأولى بخفض الإنفاق العامّ والتخفيف من حاجته إلى المزيد من التمويل، بما يؤمّن مساحة مالية كافية للاستمرار في خدمة الدَّين وعدم الوصول إلى مرحلة التوقّف عن السَّداد. وتلبّي مطالب الثانية بزيادة الضرائب على استهلاك الأسر، لزيادة الإيرادات العامّة والحدّ من تنامي الاستيراد والتخفيف من الحاجة إلى الكثير من الدولارات من أجل سدّ فجوة التمويل التي تضغط بقوّة على سعر صرف الليرة وترفع أسعار الفوائد. هذا الخطاب الإصلاحي يقرُّ بأن هناك خسائر واقعة لا بدّ من توزيعها، ولكنّه ينطلق من ميزان القوى الاجتماعي القائم كما هو، ولا يطرح مهمّة تعديله لمصلحة الفئات الاجتماعية الأكثر تضرّراً. لذلك، يميل بصورة حاسمة إلى تبنّي إجراءات مالية قاسية لا تمُسّ مصالح رأس المال المصرفي والتجاري والعقاري، الذي تراكم بوتيرة سريعة منذ عام 1993، وتركّز أكثر فأكثر لدى أقل من 1% من السكّان، وهم باتوا يستأثرون وحدهم بأكثر من ربع الدخل و40% من الثروة وأكثر من نصف الودائع، ويمثّلون فئة نافذة جدّاً تضمّ كبار المودعين وكبار ملّاك الأراضي وكبار المستوردين، الذين يحتكرون ثُلثَي أسواق السلع والخدمات ويستحوذون على نصف مبيعاتها.
لماذا هذا الخطاب سيّئ؟ ولماذا وصفته خطيرة؟
لقد تعهّدت الحكومة في اجتماع باريس 4 (سيدر) بعدم اللجوء إلى أي نوع من أنواع الإصلاح الذي يستهدف تحميل الدائنين قِسطهم من الخسائر المُترتبة، لا على صعيد الخفض القسري أو الطوعي لأصل الدَّين والفوائد المدفوعة عليه، ولا على صعيد زيادة الاقتطاعات الضريبية من أرباح المصارف والمستوردين ودخل الفوائد والمضاربات العقارية والامتيازات وحيازة الممتلكات والثروة الخاصّة. وبالتالي يستبعد خطاب الإصلاح المَدْخَل البديهي لتوزيع الخسائر المُتمثّل بالنظام الضريبي. في المقابل، تعهّدت الحكومة بخفض العجز المالي بنسبة 5% من مجمل الناتج المحلّي على مدى السنوات الخمس المقبلة، أي خفض الإنفاق العامّ وزيادة الإيرادات بما قيمته 3 مليارات دولار، بمعدّل 600 مليون دولار سنوياً.
منذ أيام، أعلن رئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري أن العمل بعد تشكيل الحكومة العتيدة سينصبّ على خفض دعم الكهرباء المُخصّص لخفض السعر عن كاهل المُستهلكين (الأسر والمنتجين)، وسيكون الخفض في عام 2019 بمقدار 600 مليون دولار، أي، بمعنى ما، سيُنقَل ثُلث مجمل هذا الدعم، المُقدّر بنحو 1800 مليون دولار سنوياً، من الموازنة العامّة إلى ميزانيّات الأسر مباشرة في غضون سنة واحدة، على أن يتواصل الخفض في السنوات اللاحقة وصولاً إلى إلغاء كلّ الدعم. هذه العملية تعني زيادة إنفاق كلّ مشترك على شبكة توزيع الكهرباء بمقدار 1250 دولاراً، 425 دولاراً منها في عام 2019 وحده. ولا تنوي الحكومة في مقابل هذا الخفض الاستثمار مباشرة بزيادة القدرة الإنتاجية لمؤسّسة كهرباء لبنان لتغطّي كلّ الطلب الاستهلاكي على الكهرباء، بل ستجيّر هذه المهمّة إلى الاستثمارات الخاصّة عبر منح أشخاص معيّنين امتيازات لإنتاج الكهرباء مع ضمانات من الدولة بشراء كلّ الكمّيات التي ينتجونها، ودفع أسعار كافية لاسترداد الاستثمارات وتسديد القروض وفوائدها وتحقيق الأرباح في وقتٍ قصير. تفيد معظم الدراسات أن كلفة الاستثمارات الخاصّة في البنية التحتية والخدمات الأساسية هي أعلى بشكّل مؤكّد من كلفة الاستثمارات العامّة المباشرة، فالدولة لا يحرّكها حافز الربح، بل تؤدّي وظيفة ضرورية لتأمين البنى والخدمات بأقلّ سعر ممكن، كذلك إن كلفة اقتراض القطاع العامّ لتمويل المشاريع أدنى من كلفة اقتراض القطاع الخاصّ لتمويل المشاريع نفسها. وبالتالي من المرجّح جدّاً أن يؤدّي إلغاء دعم الكهرباء إلى رفع الأسعار إلى مستويات لا يكون بمقدور الكثير من الأسر والوحدات الإنتاجية تحمّلها، ما سيؤدّي إلى أرباح أكيدة للمستثمرين، ولكن ستترتّب خسائر اجتماعية واقتصادية على كاهل الفئات الأقلّ دخلاً، ولا سيّما الفقراء وأصحاب الدخل المتوسّط.
يُعدّ مثال الكهرباء نموذجاً مُصغّراً لوصفة «التقشّف» المطروحة، إذ بحجّة تقليص حجم القطاع العامّ وإنفاقه ووظائفه، كشرط لاستعادة النموّ الاقتصادي وجذب التدفّقات الخارجية والمحافظة على سعر صرف الليرة الثابت، يجري الترويج لعقود الشراكة مع القطاع الخاصّ التي تشمل كلّ شيء تقريباً، بما في ذلك الحاجات الحيوية، كما لو أنها بديل من الدعم، في حين أنها لا تقوم إلا بنقل العجز من الدولة إلى الأسر وتخفي تراكم الدَّين العامّ الحقيقي. ويذهب بعض كارهي الدولة إلى أكثر من ذلك، فهم يطالبون بخفض عدد الوظائف في القطاع العامّ وخفض الأجور وخفض معاشات التقاعد وخفض الإنفاق الاجتماعي على الصحّة والتعليم والبيئة والاكتفاء بالإنفاق على الجيش وأجهزة الأمن المُختلفة. أمّا حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فقد دعا صراحة إلى فرض ضريبة بقيمة 5 آلاف ليرة على كلّ صفيحة بنزين من أجل زيادة الإيرادات وإعادة امتصاص جزء من القوّة الشرائية للأجور التي نتجت من وضع سلسلة الرتب والرواتب الجديدة موضع التنفيذ في عام 2018.
هذه الوصفة جُرِّبَت على مدى ربع قرن، وأنتجت كلّ ما يشكو منه المقيمون في لبنان على الصعد المُختلفة، من الكهرباء إلى المياه والصرف الصحّي والنفايات وأحوال الطرقات وزحمة السير وتدهور البيئة وتقلّص الأراضي الزراعية والإنتاج وتراجع جودة التعليم والخدمات الصحّية وضمور الوظائف والدخل... إلخ. فقد اعتمدت الحكومة اللبنانية سياسات تقشّفية قاسية منذ ظهور العجز المالي وانفجار الدَّين العامّ في النصف الثاني من عقد التسعينيات، فعمدت إلى تجميد الأجور في القطاعين العامّ والخاصّ بين عامي 1996 و2012، وقلّصت الإنفاق الاستثماري على مشاريع البنية التحتية والمرافق العامّة إلى مستويات لا تكفي لأعمال الصيانة ولا تواكب نمو الاقتصاد والسكّان وحاجاتهم. وتفيد التقديرات بأن كلّ استثمارات الدولة في العقد الأخير شكّلت أقل من 1.5% من مجمل الناتج المحلّي كمتوسّط سنوي. في ظلّ هذا التقشّف الكبير، كان القطاع الخاصّ يقدّم الخدمات الأساسية بدلاً من الدولة، ولكن بأسعار مُرتفعة ونوعية رديئة ومنافسة معدومة وإدارة عامّة عاجزة عن الرقابة.
ما يعدنا به الخطاب الإصلاحي في عام 2019 هو تجربة أخرى للوصفة نفسها، وعلينا أن نفترض أن النتائج ستكون مختلفة، فحتّى الدعوات التي تريد تقليص عبء الدَّين باعتباره مصدر العجز المالي الرئيس لا تخرج عن هذا السياق، وتطالب بأن يتحمّل مصرف لبنان قسطاً من كلفة خدمة الدَّين الحكومي، عبر عمليّات استبدال مطروحة لسندات خزينة بسندات أخرى بسعر فائدة منخفض، كما لو أن الخسائر التي يتحمّلها مصرف لبنان ليست خسائر عامّة.