نتيجة لانعدام المساءلة والمحاسبة، يتّضح يوماً بعد يوم أن القائمين على مسيرة البترول والغاز في لبنان ليسوا مستعدّين لتصحيح الأخطاء والانحرافات، التي تمّ ارتكابها حتّى الآن، والتي لا يمكنها أن تقود إلّا إلى هدر ثروة موعودة يعوّل عليها اللبنانيون لمستقبلهم ومستقبل أولادهم. ذلك لأن التدابير المتّخذة لإجراء دورة تراخيص جديدة لمنح حقوق تنقيب وإنتاج تسير على نهج الدورة الأولى، وتنطوي على المغالطات والتجاوزات نفسها، لا بل إن البعض لا يتورع عن المعارضة العلنية لتصحيح المسار ومناهضة إجراءت جوهرية في طليعتها إنشاء شركة نفط وطنية وممارسة المجلس النيابي لصلاحياته التشريعية والرقابية.لم يعد ثمّة حاجة للعودة إلى أخطاء وانحرافات السنوات الطويلة الماضية التي سبقت الإشارة إليها بإسهاب على هذه الصفحات، إلّا أنه لا بدّ من التركيز هنا على أبرز المخاطر في مواضيع الساعة، والتي يمكن إيجازها في النقاط التالية:

استرجاع المجلس النيابي لصلاحيات أساسية سُلبت منه
يشير الجدل الدائر في إطار اللجان النيابية المعنية وخارجها حول السلطة المخوّلة لمنح حقوق تنقيب وإنتاج، إلّا أن البعض ما زال يعتبر أن الجهة المسؤولة عن ذلك هي الحكومة، وأن العقود الموقّعة مع الشركات العاملة لا تحتاج إلى مصادقة السلطة التشريعية. ما يعني استمرار الوضع الذي ساد خلال دورة التراخيص الأولى، والذي اتّسم بشكل خاص: أولاً، بقيام بعض موظّفي وزارة الطاقة بتزوير القانون البترولي عبر المادة 5 من المرسوم 43/2017 التي نصّت، خلافاً للقانون، على عدم مشاركة الدولة في الأنشطة البترولية. وثانياً، بتمرير الاتفاقيتين الخاصّتين بالتنقيب والإنتاج في الرقعتين 4 و9 من دون عرضهما على المجلس النيابي للتدقيق والموافقة. هذا مع التذكير أن مشروع المرسوم التطبيقي المذكور قد أحيط بأعلى درجة من السرّية خلال مدّة قاربت ثلاثة أعوام قبل المصادقة عليه في غفلة، وذلك كلّه من دون أدنى مناقشة وحتّى من دون إعطاء الوزراء الوقت اللازم لقراءته، ناهيك عن ضرورة معرفة ما أُدخل عليه من تعديلات شوّهت مبادئ جوهرية قام عليها القانون.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

كان من الممكن تفسير هذا الوضع لو كنّا في بلد يُعتبر فيه المجلس النيابي مجرّد فولكلور. أما وأنّنا حتّى إشعار آخر في بلد ديموقرطي يشكّل فيه المجلس النيابي السلطة التشريعية الوحيدة، وأعلى سلطة رقابية تسهر على مصلحة المواطنين، فلا يمكن وصف ما حدث إلّا بانتهاك القانون والدستور، واستباحة المال العامّ وحقوق المواطنين.
أمّا الجدل حول تحديد الأولوية، بين الحكومة والمجلس النيابي، في عقد اتفاقيات استثمار البترول والغاز، فليس له كبير معنى، إذ إنه لا يوجد تعارض بين الاثنين، بل يوجد تكامل بين سلطة تشريعية تسنّ القوانين وتراقب تنفيذها، وأخرى تنفيذية تقوم بوضعها موضع التنفيذ في الإطار الذي ترسمه الأولى. ولا يمكن أن ينكر هذه البديهيات إلّا من يخاف من القانون ومن الرقابة على حسن تنفيذه.

سدّ الثغرات في القانون والمراسيم
بمناسبة مناقشة مشروع القانون الخاصّ باستثمار البترول والغاز على اليابسة، يبدو من الضروري تشكيل لجنة نيابية خاصّة تتولّى، بالتنسيق مع اللجان المعنية الأخرى، القيام بجردة كاملة لشتّى الثغرات التي تشوب القانون 132/2017 الخاصّ بالموارد البترولية في المياه البحرية، والتناقضات بين أحكام هذا القانون من جهة والمراسيم التطبيقية من جهة ثانية. وذلك بهدف تجنّب هذه الثغرات والتناقضات في القانون الجديد، علاوة على قانون خاصّ يصحِّح الانحرافات والتناقضات التي حصلت حتّى الآن، وفي طليعتها وبالإيجاز:
أولاً، إلغاء المادة 5 من المرسوم 43/2017 التي تشلّ دور الدولة في الأنشطة البترولية.
ثانياً، إلغاء المادة 16 من المرسوم نفسه التي تعطي الدولة، وبشكل مهين ومخجل، حقّ «طلب» تعيين مجرّد «مراقب» في لجان إدارة الشركات الأجنبية العاملة، عوضاً عن مشاركة الدولة الفعلية في مراحل صناعة البترول والغاز كافة.
ثالثاً، عدم دمج مراحل الاستطلاع والاستكشاف والإنتاج في اتفاقية واحدة تُعقد لما يقارب أربعين سنة، وذلك خلافاً للقانون والأعراف المُتّبعة في كلّ أنحاء العالم.
رابعاً، إعادة النظر في تقسيم المنطقة الاقتصادية إلى عشر رقع فقط، لا يقلّ متوسّط مساحتها عن 1,900 كلم مربع، أي خمسة أضعاف ما هو عليه في إسرائيل، وأربعة أضعاف الحدّ الأقصى للرقع الممنوحة في القسم النرويجي من بحر الشمال الذي تفوق مساحته 105 مرّات كامل مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة عندنا.
خامساً، ضرورة الاقتداء بما يتمّ في النرويج وغيرها لجهة التمهّل في تلزيم رقع جديدة، بانتظار نتائج الحفر في الرقع التي سبق تلزيمها، ومعرفة احتمالات وجود مكامن جيولوجية واعدة في تركيبات أخرى قريبة منها. في حين أن التسرّع في تلزيم الرقع الثماني الباقية، يعني التسرّع العشوائي في الارتباط بالتزامات تمتدّ على أربعة عقود، والتفريط باحتمالات الحصول على مكاسب أكبر وشروط أفضل للدولة. خصوصاً أنّ المعطيات الجيولوجية التي تملكها الدولة حول الاكتشافات المُمكنة في لبنان، لا يمكن مقارنتها بما تملكه الشركات العالمية.

إنشاء شركة نفط وطنيّة
سنوات وسنوات طويلة هُدرت وفرص ثمينة ضاعت من دون أن يُقدِم لبنان على ما أقدمت عليه، منذ مطلع القرن الماضي، كلّ الدول الأوروبية، ثمّ كلّ الدول النامية، بما فيها كلّ الدول العربية من دون استثناء، المُنتِجة وغير المُنتِجة للبترول والغاز (بما فيها إقليم كردستان العراقي)، أي إنشاء شركة نفط وطنية، أو أحياناً شركات عدّة. كلّ هذه الدول، صناعية كانت أو نامية، أدركت منذ عشرات السنين ما يمليه مجرّد الحسّ السليم، أي إن شركات النفط الوطنية هي أداة لا بدّ منها للتحرّر من الهيمنة الأجنبية ولتنفيذ سياسة مستقلّة تتماشى ومتطلّبات المصلحة الوطنية في مختلف مراحل الإنتاج والتكرير والنقل والتوزيع والبتروكيمياء وتدريب الكوادر الوطنية اللازمة. كلّها أدركت ذلك وتصرّفت على هذا الأساس، انطلاقاً من فرنسا عام 1928 إلى كلّ الدول الأوروبية الأخرى، وانطلاقاً من المكسيك عام 1938 إلى كلّ البلدان المستعمَرة سابقاً في مختلف أنحاء المعمورة. كلّها باستثناء… لبنان!
وغنيّ عن القول إن هذا الاستثناء لا يعود سببه لجهل اللبنانيين لما يجري في العالم، أو لجهلهم لأبسط مستلزمات تطوير صناعات ومرافق أولية من مرافق الاقتصاد الوطني. السبب هو أن هدف بعض القائمين على هذا القطاع لا علاقة له لا بالاقتصاد الوطني ولا بمصلحة المواطنين. والحال أن مصنّعي التكرير في الزهراني وطرابلس عاطلان عن العمل منذ قرابة أربعة عقود وأن لبنان يستورد كلّ قطرة من المحروقات التي يستهلكها، وأن صناعته البتروكيمائية شبه معدومة. أمّا موضوع مشاركة الدولة في مشاريع التنقيب والإنتاج عبر شركة وطنية تمثّل كلّ اللبنانيين، فما زال يصطدم بحجج هجينة ليس أقلّها أنه لا بدّ أوّلاً من اكتشاف البترول والغاز بكمّيات تجارية، يضيف إليها المستشار النرويجي من أصل عراقي فاروق القاسم، أن هذه الاكتشافات يجب أن تكون كافية لتأمين الإنتاج لمدّة أكثر من عشرين سنة، إضافة إلى شروط أخرى لا تستند إلى أيّ منطق اقتصاديّ أو أي تجربة في البلدان الأخرى، بما فيها النرويج!

خدعة اتباع النموذج البترولي النرويجي
من أغرب وأعجب ما يلفت الانتباه في مسيرة البترول والغاز في لبنان أنّ بعض المسؤولين عن هذا القطاع يردّدون منذ سنوات طويلة أن التدابير المتّخذة لاستثمار الثروة البترولية الموعودة مستوحاة مما يُسمّى «النموذج البترولي النرويجي». ودليلهم على ذلك اتّفاق التعاون البترولي الفنّي القائم بين البلدين منذ عام 2006، الذي يجدّد كل ثلاث سنوات من دون انقطاع، والدورات التدريبية التي يقومون بها في النرويج في إطار الاتفاق المذكور، إضافة إلى الزيارات المُتعاقبة إلى لبنان لخبراء نرويجيين لا يعرف اللبنانيون أسماءهم ولا وجوههم، باستثناء الجيولوجي فاروق القاسم الذي لم يظهر إلى العلن إلّا في مطلع هذا العام.
الغريب والعجيب في الموضوع أن المقارنة بين ما حصل في النرويج وما يحصل عندنا تدلّ ليس على تباعد، بل على تناقض تامّ بين سياسة وتجربة النرويج من جهة ومسيرة البترول والغاز في لبنان من جهة ثانية. تناقض كلّي، خصوصاً حول أمور ونقاط جوهرية كالشفافية، ومشاركة الدولة في الأنشطة البترولية، وإنشاء شركة نفط وطنية، ونظام تقاسم الإنتاج، ودور المجلس النيابي، والحوكمة إلخ... وقد سبقت الإشارة مراراً وتكراراً إلى هذه التناقض، كما طرحت الأسئلة حوله، أسئلة ما زالت من دون أيّ جواب أو تفسير رسمي حتّى الآن. لا بل إن التفسيرات التي تمّ تكليف السيد فاروق القاسم بإعطائها زادت الغموض غموضاً بسبب المغالطات والتناقضات التي وقع فيها، جرّاء ما كتبه في «الأخبار» من جهة، وما حصل فعلاً في النرويج، وما كتبه شخصياً في كتابه «النموذج البترولي النرويجي» من جهة ثانية (راجع «الأخبار» تاريخ 3 كانون الأول 2018).
أخيرا لا آخراً، نطرح الأسئلة التالية: نظراً إلى التناقض في السياسات البترولية في كلّ من النرويج ولبنان، لماذا الاستمرار في التأكيد على أن لبنان يستوحي سياسته من النموذج البترولي النرويجي؟ وبعد كلّ دورات التدريب في النرويج، ألم يسأل أو يتساءل بعض القائمين على سياسة البترول والغاز في لبنان لماذا تشارك الدولة في الأنشطة البترولية وتسيطر عليها في النرويج، وتُمنع عن ذلك في لبنان؟ ولماذا تمّ إنشاء الشركة الوطنية «ستاتويل» في النرويج وتُبذل الجهود لمنع إنشاء شركة وطنية في لبنان؟ ولماذا تناقضات السيد فاروق القاسم حول هذه الأمور وغيرها، حسب ما إذا كان يكتب لقرّاء خارج لبنان أو إذا كان يتحدّث أو «ينصح» اللبنانيين؟ هذا غيض من فيض، أمثلة كثيرة أخرى تنطوي عليها مسيرة البترول والغاز عندنا من ألفها إلى يائها.
إن لم يكن ممكناً اعتبار كلّ هذا تضليلاً، فكيف يا ترى يكون التضليل؟

* باحث ومستشار في قضايا البترول