يحتدم النقاش على المستوى الدولي، وتحديداً في البلدان الرأسمالية المتقدّمة حول مستقبل العمل وأي شكل سيأخذه مع تسارع التطوّر التكنولوجي. هذه التغيّرات الجذرية وتحديداً تأثيرها في العمل شكّلت موضوع تقرير التنمية العالمي لعام 2019 للبنك الدولي تحت عنوان «طبيعة العمل المتغيّرة». يضاف هذا التقرير إلى سلسلة من التقارير والدراسات الصادرة حول الموضوع نفسه، لا سيّما من منظّمة العمل الدولية ومنظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية. فبينما تُخاض هذه النقاشات على المستوى الدولي بين الاقتصاديين والتيّارات السياسية والفكرية والعمّال، الذين ينخرطون فيها عبر تحرّكاتهم إن كان في أوبر أو أمازون، تبقى البلدان العربية غائبة عن نقاش كهذا، على رغم أن تبعاته ستكون ذات أثر كبير على المنطقة. فالوظائف ذات القيمة المُضافة والتقانة المتدنية، أي التي يسهل ترميزها وفق التقرير، وهي الأكثر انتشاراً في المنطقة، مُرجّحاً أن تكون الأكثر تعرّضاً للأتمتة، كما أن البلدان العربية هي متلقّية للتكنولوجيا الرقمية ولا تنتجها، أي أننا مقبلون على تعمّق الاختلالات البنيوية وعدم التوازن مع البلدان المتقدّمة. إضافة إلى ذلك، بيّنت التجربة أن السياسات والتوصيات التي يقترحها البنك الدولي وغيرها من المؤسّسات الدولية، تُفرض بالدرجة الأولى على البلدان النامية. كلّ هذه العوامل لم تكن كافية لاستفزاز نقاش جدّي حول مستقبل العمل في المنطقة على كلّ الصعد بدءاً من الحركات الاجتماعية وصولاً إلى صانعي السياسات.
مستقبل العمل يبدأ الآن
يمكن القول إن مستقبل العمل بدأ يتبلور الآن بأشكال عدّة، كاقتصاد المنصّات (مثل أوبر وغيرها) وتفجّر التجارة الإلكترونية وازدياد وتيرة الأتمتة (أي إحلال الروبوتات والآلات التي تعمل ذاتياً من دون تدخّل بشري)، فمنذ أيام قليلة كشفت الصين عن أوّل رجل آلي يعمل كمذيع أخبار. تقدّم التحوّلات الحاضرة فكرة عن ملامح مستقبل العمل ولكن تبقى الصورة مُبهمة.
لا يتّفق الاقتصاديون على شكل هذا المستقبل، فتتراوح الآراء بين المثالية المُطلقة، التي ترى أن التطوّر التكنولوجي سيخلق وظائف عدّة، كما أنه سيحرّرنا من العديد من الأعمال التي نقوم بها. وبين التشاؤم الحادّ، الذي يخشى من تدمير وظائف يفوق عددها ما سيتمّ خلقه، بالإضافة إلى تعمّق اللامساواة داخل البلد الواحد وبين البلدان نفسها عبر تعميق ما يُسمّى بـ«الهوّة الرقمية». في هذا السياق، أتى تقرير البنك الدولي ليقدّم موقفاً تسووياً في التشخيص حصراً وليس في التوصيات، فهو يقول إن الطلب على المهارات الاجتماعية والسلوكية سيزداد في المستقبل كحلّ للمشاكل والعمل الجماعي وغيرها من المهارات الإنسانية التي يصعب نقلها إلى الآلة أو ترميزها. فالإشكالية التي يعالجها البنك الدولي لا تتمحور حول ملامح مستقبل العمل بل كيفية التعامل مع التغييرات التي ستطرأ، وكيف يمكن تهيئة المجتمعات، وخصوصاً العمّال، للتأقلم مع المستقبل، فيطرح جملة من الاقتراحات تحت عنوان الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد.

خلاف في المنظومة الدولية
يمكن توصيف العقد الاجتماعي الجديد، الذي يقترحه البنك الدولي، كاتفاق بين العمّال والدولة على تحرير رأس المال من أي التزامات. ويقدّم البنك هذه الهدية لرأس المال على أنه الخطوة الضرورية، والتي لا مفرّ منها، من أجل تعزيز قدرة المجتمع على التأقلم مع التغييرات القائمة والاستفادة منها. فيطرح التقرير جملة من الأمور التي طالما سعى رأس المال إلى التخلّص منها، ولكن هذه المرّة يتمّ تسويقها على أنها لمصلحة العمّال أنفسهم والشركات، لكي يتمكّنوا من التأقلم مع المتغيّرات وتحقيق المرونة، ولكن مع الحفاظ على حماية العمّال (بعد صرفهم من عملهم). وهذه مقاربة نيوليبرالية قديمة تمّ طرحها في أوّل الألفية من أجل إدخال المرونة إلى أسواق العمل في أوروبا، ويعيد البنك الدولي إحياءها في تقريره. بالتالي يقوم العقد الاجتماعي الجديد الذي يطرحه البنك الدولي على ركيزتين أساسيتين لتعزيز الرأس المال البشري: أوّلاً، أن تقوم الدولة بالاستثمار في التعليم المتواصل بدءاً من الطفولة ولا تنتهي مع سنّ الرشد من أجل بناء المهارات الاجتماعية والسلوكية التي تحتاجها أنماط العمل الجديدة؛ ثانياً إدخال المرونة الآمنة لتعزيز قدرة العمّال والشركات على التطوّر سريعاً عبر إصلاح أنظمة العمل والحماية الاجتماعية، أي بمعنى آخر نقل كلفة أنظمة الضمان والتأمينات الاجتماعية من رأس المال إلى العمّال والدولة.

عقد اجتماعي لخدمة رأس المال
ينذر تقرير البنك الدولي بما ستكون عليه السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي ستفرض على الدول، وخصوصاً النامية منها، بحجّة التأقلم مع التطوّر التكنولوجي والرقمي. فالعقد الاجتماعي الجديد الذي يطرحه البنك يتمّ تقديمه تحت عنوان الاستجابة لتحديّات البلدان النامية في شكل خاصّ، وتحديداً ارتفاع العمالة غير النظامية. بالتالي، وفق البنك الدولي علينا إصلاح قوانين العمل التي فُرضت على الدول النامية من قِبل الاستعمار، فيخيّل إلينا أن البنك تبنّى خطاباً عالم ثالثياً. ولكنّه يقصد غير ذلك، ويستهدف قوانين العمل بصفتها غير مرنة وتمنع العامل من تغيير عمله، كما أنها تفرض تعويضات نهاية خدمة مُرتفعة ما يعيق قدرة الشركات على التأقلم مع كلفة التعويضات، كما أن أكلاف العمل مُرتفعة نتيجة المساهمات المقدّمة للتأمينات الاجتماعية من قِبل صاحب العمل... فكلّ ذلك، برأي البنك، يدفع إلى اللانظامية.
بالنسبة للتقرير علينا حماية العمّال وليس العمل، ويكون ذلك عبر تسهيل الصرف من العمل مع تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، ولكن مع إعفاء أصحاب العمل من هذه المهمّة عبر التخلّص من نظام التأمينات الاجتماعية القائم على التضامن والتعاضد عبر رسملة التقاعد ومساعدات البطالة. أي سيتوجّب على العمّال أن يؤمّنوا على أنفسهم اجتماعياً عبر فتح حسابات شخصية تتحمّل فيها الدولة جزءاً من الكلفة لتخفيف الأعباء على صاحب العمل. ولدعم هذا الطرح، يعطي التقرير مثال إثيوبيا التي يزعم أنه نتيجة توسيع رقعة الاستفادة من إعانات العجز والتقاعد إلى القطاع الخاصّ ارتفعت نسبة العمالة غير النظامية. ومن ناحية أخرى، يطرح البنك من خلال هذا العقد الاجتماعي مفهوم الشمولية التصاعدية لبرامج الحماية الاجتماعية، أي تغطية الأشدّ فقراً ثمّ توسيع رقعة التغطية وفق قدرة المالية العامّة. يعني ذلك تضييق الحماية ثمّ توسيعها بما يقصي من هم فوق خطّ الفقر وذوي الدخل المحدود والمتوسّط، فتكون الحماية الاجتماعية امتيازاً وليست حقّاً. أمّا الطامة الكبرى فتتمثل باقتراح التقرير تمويل ما ذكر أعلاه عبر زيادة الضرائب غير المباشرة ورفع الدعم، أي أن العقد الاجتماعي الجديد هو عبارة عن إزاحة جميع الأعباء الاجتماعية عن كاهل رأس المال أو تمويل النموذج الجديد عبر ضرائب تنازلية يدفعها العمّال والناس في شكل عامّ.

صراع حول مستقبل العمل والمنطقة غائبة
استفزّ التقرير حتّى منظّمة العمل الدولية، ودفعها إلى خطوة غير مألوفة بإصدار بيان ينتقد تقرير البنك الدولي، الذي يدعو إلى تحرير سوق العمل وتفكيك أنظمة الحماية الاجتماعية. واللافت أن بيان منظّمة العمل الدولية لم يقتصر على إظهار الخلاف الحادّ بين منظّمتين تنتميان إلى منظومة الحوكمة الدولية نفسها، بل بين منظّمتين عالميتين أطلقتا سوياً مبادرة الحماية الاجتماعية الشاملة في عام 2016.
مسار الأمور يشي باحتدام الصراع بين رأس المال والعمّال حول شكل وطبيعة مستقبل العمل، الذي لا تحكمه فقط درجة التطوّر التكنولوجي، بل أيضاً السياسات العامّة التي تقدم عليها الدول والتحرّكات العمّالية وتعاملها مع هذه التطوّرات. والخلاف بين منظّمة العمل الدولية والبنك الدولي هو أحد تجليات هذه الصراعات، خصوصاً أن المنظّمة الأولى تتمثّل فيها النقابات العمّالية إلى جانب الحكومات وأصحاب العمل، في حين أن البنك الدولي تسيطر عليه مصالح رأس المال حصراً.
هذا هو العقد الاجتماعي الجديد- القديم، الذي يعيد البنك الدولي تغليفه بلباس التأقلم مع التغيّرات التي سيشهدها عالم العمل. وبطبيعة الحال، يشكّل مستقبل العمل مضمار صراع بين العمل ورأس المال، ولا بدّ أن تنتج منه توازنات جديدة ستطبع اقتصادات العديد من الدول الرأسمالية المتقدّمة حيث هناك نقابات وحركات عمّالية ما زالت قادرة على خوض صراع كهذا حتّى لو كانت أضعف. ولكن ما تبيّنه لنا التجربة منذ عقود أن ما يطرحه البنك الدولي سيتمّ فرضه على بلدان كبلداننا، حيث تطغى التطوّرات الظرفية على النقاشات الاقتصادية والسياسية، وتغيب القوى الاجتماعية، لا سيّما الحركات العمّالية، عن خوض الصراع بوجه رأس المال، وبالتالي لن تؤثّر، ولو في شكل طفيف، في شكل اقتصادات المستقبل. فمن سيغيب عن صراع تحديد ملامح مستقبل العمل هو من سيدفع الثمن الأكبر للتغيّرات التي بدأت تتكوّن الآن وستأخذ مداها في المستقبل.


موقف الاتحاد الدولي للنقابات
جاء في ردّ الاتحاد الدولي للنقابات على البنك الدولي، أنه خلافاً لمنظّمة العمل الدولية ومؤسّسات أخرى حلّلت موضوع مستقبل العمل، يتجنّب تقرير التنمية العالمي 2019 تحديد الآثار السلبية والإيجابية لابتكار وتطبيق التكنولوجيا الجديدة. كما أنه يتجنّب مناقشة كيف يجب أن تحاول السياسة العامّة أن تتحكّم وترشد هذه التكنولوجيا. عوضاً عن ذلك، يقدّم التقرير نظرة حميدة حول التحوّلات المُرتقبة ويتّهم القلقين من تعمّق اللامساواة بأنهم ضحايا الاعتقادات الخاطئة ويقدّم نظرة الحتمية التكنولوجية. على الحكومات أن تقبل وتتأقلم مع آثار التكنولوجيات الجديدة على العمّال والناس كما هي مطبّقة من قِبل المصالح الخاصّة، وحتّى الشركات الضخمة، والابتعاد من محاولة السيطرة عليها أو تنظيمها.
تُبنى هذه النظرة الحميدة على بيانات مجتزأة، وحين تتعارض المعطيات مع هذه النظرة يتمّ التغاضي عن ذلك وخصوصاً في التوصيات. فتقوم المقاربة السياساتية للتقرير على أنه يجب السماح للقطاع الخاصّ بفعل أي شيء يعتبر أنه يصبّ في مصلحته. بالتالي، يجب تفكيك كلّ القوانين التي تعيق قطاع الأعمال، وعلى الشركات أن تُعفى من واجباتها، كالمساهمة في الحماية الاجتماعية لعامليها. عوضاً عن ذلك، على الحكومات أن تتحمّل تلك المسؤولية وتموّل التكلفة عبر إعطاء الأولوية لمصادر الإيرادات ذات التأثير الأقلّ في الشركات، وخصوصاً الضرائب على الاستهلاك. ففي حين يدافع التقرير عن الحاجة إلى المزيد من الاستثمارات العامّة في الصحّة والتعليم، من ضمنها توظيف عاملي الصحّة في المجتمعات المحلّية والاستثمار في التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة، يقدّم رؤية أحادية البعد لدور التعليم في المجتمع ولا يقدّم أي حلول واقعية لتمويل هذه الخدمات غير زيادة الضرائب التنازلية (...)
كان يمكن لإنتاج تقرير عميق ومبني على الأدلة حول «طبيعة العمل المتغيّرة» من قِبل أهمّ مؤسّسة مالية تنموية في العالم، أن يضيف رأياً قيّماً لنقاش يُخاض في مؤسّسات ومنتديات عدذة. ولكن عوضاً عن ذلك، يفشل تقرير التنمية العالمي للبنك الدولي في جبهات عدّة. فيحاول في شكل فاشل إنكار وجود تحديات عدّة كاللامساواة المتنامية. كما أنه يتبنّى برنامجاً تبسيطياً يقوم على تخفيف القيود، والقوانين والضرائب على الشركات، ويتعارض في بعض الأحيان مع استنتاجات التقرير نفسه. كما أنه لا يأخذ في الاعتبار أهداف التنمية المُستدامة لعام 2030. بالمحصلة، كلّ ما ذكر يمكن الاستنتاج منه أن تقرير التنمية العالمي 2019 لا يشكّل مساهمة جدّية للنقاشات حول مستقبل العمل