«إنه عالم سحريّ منحرف ومقلوب رأساً على عقب»كارل ماركس

حاول مقال في الإيكونوميست، نُشر في الأسبوع الماضي تحت عنوان «تاريخ أوروبا يفسّر لماذا القارة لن تنتج شركة مثل غوغل»، أن يعطي انطباعاً بأن أوروبا لا تزال غارقة في القِدَم على صعد عدّة، من حكمها السياسي الذي لا يزال يحمل آثار «الصراع بين البورجوازية والطبقة العاملة»، إلى رغبة الرأسماليين الأوروبيين بأن يستثمروا في مؤسّسات ذات أصول فيزيائية، يستطيعون وضع اليد عليها في حال الإفلاس بخلاف مؤسّسات الاقتصاد الرقمي ذات الأصول الرقمية والوهمية، وصولاً إلى كلّ ما هناك من عادات ومؤسّسات أوروبية تمنع أن تكون أوروبا رائدة في مجالات التواصل الاجتماعي والحوسبة الغيمية والمبيعات الإلكترونية. وتضيف أنه في هذه المجالات يبدو التفوّق الأميركي والصيني واضحاً، فأكبر 15 شركة رقمية في العالم كلّها أميركية أو صينية، ومن ضمن قائمة المئتين الأولى هناك فقط 8 شركات أوروبية.
في هذا الإطار، أخذت الإيكونوميست شركة غوغل كمثال لتقارن أو تنتقد طريقة عمل الأوروبيين في التعامل مع التكنولوجيات الرقمية، لأنها، أي غوغل، هي الشركة المُثلى التي تشكّل رمزاً لعصر الآلة الثاني. كما أن تركيز المجلّة على وضع الشركة في مواجهة الرأسمالية الأوروبية تؤكّد أننا لسنا فقط أمام شكل جديد من التكنولوجيا، أو التكنولوجيا الرقمية، تطبع الرأسمالية بشكل عامّ، بل أمام تكنولوجيا تؤدّي إلى تغيير في شكل الشركات الرأسمالية الرقمية عن سابقاتها، وإلى تغيير في ديناميكياتها وطرق عملها وتشكيلها لبنى سوقية جديدة.
على الرغم من أن الإيكونوميست ركّزت على الجانب الاستهلاكي أو المبيعي للتكنولوجيات الرقمية، الذي بالطبع لن يبرع فيه الأوروبيون كما يفعل الأميركيون والصينيون(!)، وأغفلت دور الأوروبيين في الأبحاث والعلوم الأساسية والتطبيقية التي تغذّي هذه التكنولوجيات، إلّا أنها وضعت الإصبع على ما يشكّل نبض الرأسمالية اليوم وإحدى أهمّ شركاتها وما قد تشكّله لما بعد الرأسمالية. وهنا من المهمّ رؤية موقع ودور غوغل في هذه الرأسمالية الحديثة.
أوّلاً، غوغل هي شركة احتكارية في بعض نواحي الاقتصاد الجديد، فهي تحتكر 91% من عمليات البحث الشبكي مقارنة مع 2.2% لبينغ (مايكروسوفت) و2.3% لياهوو، وهو العملاق البحثي السابق الذي حطّمته غوغل. والسبب التكنولوجي في هذا الاحتكار هو ترابط الأندرويد مع اليوتيوب ومع تطبيقات أخرى تشكّل توليفات تُسيّر المستهلك نحو مكان واحد. هذا من الناحية التقنية، أمّا اقتصادياً فالسوق الرقمية التي تعمل فيها غوغل تتمتع بخاصية «الرابح يأخذ كلّ شي»، أي إن أي شركة لم تعد قادرة أن تكون أقلّ كفاءة من منافسيها وفي الوقت نفسه تحافظ على حصّة نسبية من السوق يحدّدها الفرق في الكفاءة بينها وبينهم. إذا أخذنا نجّارين مثلاً في المدينة: فالأكثر كفاءة بينهم يحصل على زبائن أعلى ولكن الأقلّ كفاءة سيحصل أيضاً على زبائن؛ وإذا كانت الأسواق مثالية فالفرق في الدخل بينهما سيكون انعكاساً لهذا الفرق في الإنتاجية بين الاثنين. هكذا يعمل الكثير من أسواق العمالة. أمّا في الأسواق الرقمية، إذا كنت أقلّ كفاءة فمنافسك يحصل على كلّ شيء وأنت لا تحصل على شيء. بالإضافة إلى كون غوغل في هذا الموقع، إلّا أنها أيضاً أصبحت تختار من هو الرابح الذي يأخذ كلّ شيء من الشركات التي تستحوذ عليها. فمن جميع الشركات التي كان لها تطبيقات لحركة السير في 2013 اختارت غوغل شركة ويز الإسرائيلية التي استحوذت عليها بمليار دولار أميركي وأنهت بذلك كلّ المنافسة تقريباً في هذا المجال.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

ثانياً، غوغل هي أكبر من محرّك للبحث أو من تطبيق الأندرويد ومن الخدمات الشبكية الأخرى وعلى رأسها الغيمة. فهي كشركة تساهم في انبلاج عصر الآلة الثاني كمُنتجة للذكاء الاصطناعي وكمطوّرة لبعض التكنولوجيات الحديثة ومن بينها الحوسبة الكمّية quantum computing، التي تستعمل خاصيّات المادة ما تحت الذرّية من أجل خلق كمبيوترات تتفوّق في سرعتها وكفاءتها على الكمبيوترات الحالية أو «الكلاسيكية» بأضعاف مضاعفة. الأمران هما في صلب التطوّرات التكنولوجية المؤثّرة، أي إن غوغل تذهب أبعد بكثير من الاستعمالات التكنولوجية الترفيهية والمعلوماتية (أو البحث عن المعلومات)، والتي يعتقد الكثيرون، ومن بينهم الاقتصادي الأميركي روبرت جوردون، أنه لن يكون لها التأثير الذي كان للتكنولوجيات بين عامي 1870 و1970، مثل الكهرباء والطيران ومحرّك الاحتراق الداخلي وغيرها، على الإنتاجية والنمو الاقتصادي.
غوغل هي المالكة لشركة Deepmind للذكاء الاصطناعي، الذي استطاع منتجها أن يلعب الألعاب القديمة لـ«آتاري» في لعبة التنافس بين «الذكاءات الاصطناعية»، كما استطاع أن يهزم بطل العالم في لعبة GO الآسيوية المعقّدة، بينما استطاع الذكاء الاصطناعي لشركة IBM واتسون أن يفوز على أبطال لعبة جيوباردي التي تتطلّب أن يكون الذكاء الاصطناعي أكثر تماهياً مع الذكاء الإنساني. الجدير بالذكر هنا أن شركة ديب مايند تخسر ولا تربح فهي خسرت حوالى 370 مليون دولار في 2017. أمّا الحوسبة الكمّية فهي بعيدة كلّ البعد من أن تحقّق عوائد مالية. وهنا من الواضح أن غوغل تلعب دوراً تقدّمياً في استعمال الأرباح الناتجة من التكنولوجيا الرقمية «الرفاهية»، في إنتاج تكنولوجيا من المتوقّع أن يكون لها الأثر الكبير في التقدّم الاقتصادي. وقد صرّح المدير التنفيذي لديب مايند ردّاً على الخسائر التي مُنيت بها في 2017 «نحن في مهمّة علمية طويلة الأمد لحلّ مُعضلة الذكاء واستعمالها لإفادة العالم». إذاً في هذا المجال التكنولوجي الجديد، السباق حادٌّ جدّاً وليس واضحاً البتة من سيكون الرابح. أمّا في مجال الحوسبة الكمّية فإن غوغل حقّقت إنجازاً كبيراً في آذار/ مارس الماضي، عندما قدّمت أكبر حاسوب كمّي تجريبي ادّعت فيه أنها تقترب من تحقيق «التفوّق الكمّي»، الذي يعني تفوّق هذا النوع من الحواسيب على الحواسيب الكلاسيكية. لكن الأمر ليس بتلك السهولة، إذ إن هذه الحواسيب حسّاسة جدّاً وغير مستقرّة وتتطلّب درجات عالية من العزل عن المحيط الخارجي، ما يجعلها حتى الآن قريبة من درجة الاستحالة في استعمالها خارج المختبرات. في هذا الإطار، يقول الفيزيائي النظري جون بريسكيل صاحب مقولة «التفوّق الكمّي» أنه مقتنع بأن الحواسيب الكمّية سيكون لها تأثير تحوّلي في المجتمع، لكنّه يضيف بأن «ذلك لا يزال بعيداً لعقود من الآن».
ثالثاً، غوغل هي مُنتجة لرفاه المستهلك. في الاقتصاد الرقمي هناك «منتجات» لا يتمّ تداولها في السوق، أي أن لا سعر لها، وبالتالي لا تدخل في حسابات الناتج المحلّي وهي تشكّل استعمالات الأفراد لخدمات فايسبوك وتويتر ويوتيوب وغوغل وغيرها. ولكن بالنسبة إلى البعض فإن هذا «الإنتاج» يجب أن يؤخذ في الحسبان في قياس الرفاه الاجتماعي. يورد الاقتصاديان إريك برينيولفسون وآندرو مكآفي في «العصر الثاني للآلة» مثلين عن هذا الأمر. الأوّل، في إنتاج الداتا الرقمية، قامت غوغل بنسخ أكثر من 20 مليون كتاب نُشر في القرون الماضية، وتُستعمل الآن لدراسة الحضارة والثقافة الإنسانية وتطوّرها. كما أن استعمال محرّك البحث لدى غوغل يوفّر الوقت. ففي بحث أجراه اقتصاديو غوغل تبيّن أن معدّل الوقت الذي يستغرقه أي بحث لا يستخدم غوغل، أي بواسطة الطرق التقليدية عبر الذهاب إلى المكتبة مثلاً، يبلغ 22 دقيقة في مقابل 7 دقائق على غوغل، أي بتوفير 15 دقيقة لكلّ عملية بحث، وبالتالي فإن التوفير في الوقت عبر كلّ عمليات البحث التي يقوم بها الأميركيون سنوياً، آخذاً في الاعتبار أن معدّل الأجر في الساعة يبلغ 22 دولاراً، يبيّن أن كلّ أميركي بالغ يحصل على ما يعادل 500 دولار سنوياً من البحث على محرّك غوغل.
ما حاولت أن تقوله الإيكونوميست هو أن الرأسمالية تتغيّر وتنتج أموراً جديدة وغير واضحة، وأن بعض الاقتصادات قد لا يتمكّن من اللحاق بركب التكنولوجيات الحديثة. طبعاً إنه جزء من طبيعة الرأسمالية.
في البيان الشيوعي كتب ماركس وأنجلز «أن ما يميّز العصر البورجوازي عن كلّ ما سبقه من العصور هو التثوير المستمرّ للإنتاج... (كما) عدم اليقين الدائم». وما سيحصل مستقبلاً يعتمد على حسم التقدّم التكنولوجي لخيارات المجتمعات، ليس فقط من ناحية السياسات أو الإصلاحات التي يجب القيام بها من أجل تماهي الرأسمالية مع هذا التقدّم، وإنّما أيضاً من ناحية تخطّي الرأسمالية نحو الاشتراكية. في نقاش بين إريك برينيولفسون وبين روبرت غوردون على TedTalk حول آثار التكنولوجيا تتبيّن ضحالة الطروحات البديلة. فعندما أتى الأمر إلى تأثيرها السيئ على البطالة وتوزيع الدخل والثروة يجيب غوردون مثلاً أن الولايات المتّحدة لديها الكثير من كبار السن وليس الكثير من الشباب، وبالتالي يجب أن تسمح للجميع بدخول أراضيها حتى يبقى الأذكياء منهم ويبتكرون، وعليها أيضاً أن تشرّع المخدّرات حتّى لا يدخل الشباب الإفريقي الأميركي إلى السجون! حلّ كهذا يجعل هؤلاء الاقتصاديين يشبهون الاقتصاديين البورجوازيين في عصر ماركس الذين حاولوا مقاربة الرأسمالية بجدية وعلمية لكن خشوا من أن تأخذهم تحليلاتهم إلى زمنية الرأسمالية وأزماتها المستمرّة.