سجّلت سوق سندات اليوروبوندز اللبنانية (سندات دين الدولة اللبنانية بالعملات الأجنبية) في الأسبوع الماضي أكبر انخفاض في أسعارها المُتداولة، وارتفعت في المقابل مُعدّلات العوائد عليها إلى أعلى مستوياتها. ما الذي يعنيه هذا المؤشّر؟ وماذا يعني أن يرتفع هامش تداول التأمين على مخاطر القصور الائتماني إلى حدوده القصوى؟ ولماذا يعتبر الخبراء الماليّون هذه التطوّرات أحد أخطر المؤشّرات على تطوّر الأزمة في لبنان؟وفق قواعد عمل السوق المالية، يتمّ الاكتتاب في هذا النوع من السندات على أساس سعر إصدار مُعيّن، لنفترض أنه 100 دولار للسند الواحد، وتلتزم الدولة (المَدينة) بإيفاء هذه القيمة نفسها عند استحقاق السند في المستقبل، أي إنها تلتزم بتسديد 100 دولار إلى حامل السند (الدَائن)، ولنفترض أن السند يستحقّ بعد 10 سنوات. خلال هذه الفترة، تلتزم الدولة بتسديد فائدة على السند بنسبة 10% سنوياً (مثلاً)، أي إن حامل السند سيقبض 10 دولارات في كلّ سنة، على مدى 10 سنوات، وفي النهاية يستعيد قيمة أصل السند المُحدّدة بـ100 دولار.
يخضع معظم إصدارات سندات اليوروبوندز اللبنانية لقانون ولاية نيويورك، ويجري تداول هذه السندات بحرّية في السوق المالية (بيعاً وشراءً). ولكن في ظلّ تغيّر مؤشّرات السوق الماليّة تتغيّر توقّعات المتعاملين فيها. فمع ارتفاع مخاطر هذه السندات مثلاً، يتوقّع حامل السند عائداً أعلى يغطّي هامش المخاطر المتزايدة، والعكس صحيح. وكذلك تتغيّر التوقّعات عند ارتفاع أسعار الفوائد في السوق أو زيادة العرض من هذه السندات مقابل الطلب.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وكون دفعات الفوائد ثابتة (10 دولارات سنوياً مثلاً) ومُحدّدة منذ الاكتتاب، وكذلك قيمة أصل السند عند الاستحقاق (100 دولار مثلاً)، يصبح المتغيّر الوحيد في هذه المعادلة هو سعر شراء السند اليوم، أي سعر التداول الحالي. ففي حالات مُعيّنة، تكون عادة سلبية، يلجأ حملة السندات إلى عرض بيعها في السوق في مقابل طلب حذر ومنخفض عليها، وبالتالي تصبح الصفقة الوحيدة المُمكنة هي بين مستثمرين «مغامرين»، وهم الاسم اللطيف للمضاربين في السوق الباحثين عن الصفقات المُربحة جدّاً، وبين مستثمرين يريدون التخلّص من جزء من محافظهم، ولو اضطرهم ذلك إلى عرض أسعار أدنى من سعر الإصدار، ويحصل ذلك (غالباً) إمّا بهدف التخلّص من مخاطر متعاظمة، وإمّا بهدف الحصول على السيولة لإعادة توظيفها في صفقات مُربحة أكثر أو لمعالجة اختلالات محاسبية، وهذه الاحتمالات كلّها تضافرت في حالة السندات اللبنانية أخيراً، وأسفرت عن تذبذبات سريعة في الأسعار.
ففي ظل الأوضاع الحالية، ارتفع العائد المتوقّع من المشترين بسبب ارتفاع المخاطر، وبالتالي انخفض سعر السند في التداولات الحالية كونها الطريقة الوحيدة لتعظيم العائد. فانخفاض سعر الشراء الحالي (إلى 70 دولاراً للسند مثلاً) في مقابل القيمة التي سيتمّ تسديدها لحامل السند عند الاستحقاق (100 دولار)، بالإضافة إلى الفائدة السنوية حتّى الاستحقاق (10 دولارات مثلاً)، يعني تلقائيّاً رفع العائد من هذه السندات إلى أكثر من 14% بدلاً من 10% فضلاً عن 30 دولاراً إضافية على قيمة أصل السند عند استحقاقه (على سبيل المثال طبعاً).

ماذا يحصل في الواقع؟
منذ بداية هذا العام، تشهد سوق سندات اليوروبوند اللبنانية ظروفاً ضاغطة بوضوح، وقد شهدت انخفاضاً سريعاً في الأسعار، وصولاً إلى مستويات قياسية في بداية تموز الماضي. وشهد الأسبوع الماضي أقصى انخفاض عرفته هذه السندات، حيث انخفضت - مثلاً - أسعار سندات اليوروبوند استحقاق شباط 2030 إلى 71 دولاراً للسند الواحد، بالمقارنة مع 92.64 دولار للسند في بداية هذا العام، و100 دولار للسند كسعر إصدار. بمعنى آخر، خسرت هذه السندات 23% من قيمتها منذ بداية هذا العام. لكنّ المؤشّر الأهم هنا، هو خسارة هذه السندات 29% من قيمة سعر الإصدار الأساس. ومن الطبيعي أن يعني هذا الانخفاض في أسعار السندات ارتفاع العائد عليها. فارتفع العائد على سندات اليوروبوند استحقاق تشرين الثاني 2019 لغاية 13.25%، بينما كانت هذه المعدّلات تتراوح بين 5% و5.5% في الشهر الأوّل من هذا العام.
ثمّة تفسيرات عدّة في السوق لما يحدث. يشير بعض المصادر إلى طرح صناديق استثمارية عالمية سندات اليوروبوند اللبنانية للبيع، للانسحاب بشكل تامّ من توظيفاتها في هذا المجال، بعد أن بلغت الأزمة المالية مستويات متقدّمة في لبنان. وفي الوقت نفسه، تركّز المصارف اللبنانية على توظيف سيولتها بالدولار الأميركي في الهندسات المالية الأكثر ربحية التي يقوم بها مصرف لبنان، بهدف امتصاص السيولة بالدولار والحفاظ على موجودات مُرتفعة لديه من العملة الصعبة. وهو ما يعني محدودية قدرة السوق المحلّية على امتصاص هذا العرض من سندات اليوروبوند.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

انهيار أسعار اليوروبوند بهذا الشكل، وارتفاع العوائد عليها بشكل قياسي، لا يؤشّر إلى صعوبات موجودة فقط. بل يُعدّ من الأسباب التي ستساهم - إذا استمرّت - بتفاقم الأزمة في المستقبل. فارتفاع العوائد على اليوروبوند اليوم يعني في المستقبل ارتفاع كلفة الاستدانة لتمويل العجز في الميزانية العامّة، وإعادة تمويل الدفعات التي تستحقّ من الدين العامّ. كما سيشكّل هذا الانخفاض عاملاً باتجاه ضغوط مالية أكبر على المصارف اللبنانية، التي تستدين عبر تسهيلات مختلفة في السوق العالمية عبر إيداع هذا النوع من السندات كضمانة. وعند انخفاض قيمة هذه الضمانة، سيكون على المصارف تأمين السيولة لتخفيض التسهيلات أو إعادة تكوين ضمانات إضافية.
في كل الحالات، تتابع أسواق المال عادةً مؤشّر «هامش تداول التأمين على المخاطر المُحتملة للقصور الائتماني» لمتابعة حجم المخاطر المتوقّعة على السندات. يُعبّر هذا المؤشّر عن نسبة الكلفة التي يدفعها حامل السند للتأمين في مقابل مخاطر عدم سداد السندات. بدأ هذا الهامش في بداية العام عند حدود 520 نقطة، أي إن كلفة التأمين على السندات كانت تبلغ 5.2% من قيمتها، بينما ارتفعت إلى حدود 838 نقطة خلال الأسبوع الماضي، وهو ما يُعدّ من أعلى مستويات هذا الهامش.
في المحصّلة، يبدو أنّ أزمة سندات اليوروبوند مرشّحة إلى مزيد من التصاعد، خصوصاً أن الضغوط النقدية محلّياً على مستوى السيولة بالعملة الأجنبية لن تسمح للمصارف بتعويض النقص في الطلب على هذه السندات، كما أن أي إجراء لتدخّل مصرف لبنان سيعني التخلّي عن سيولة بالدولار بالغة الأهمية بالنسبة إليه في هذا الظرف، وهو ما يناقض أساساً كلّ الهندسات والإجراءات المُكلفة التي قام بها لامتصاص العملة الصعبة من السوق.