يصف رئيس مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية ميشال افرام الأمطار التي تساقطت، في الأسبوع الماضي، أنها «ظاهرة متطرّفة»، وهو ما لا يتفق عليه كل الخبراء البيئيين، إلا أنهم يجمعون على أن مشهد السيول والأضرار اللاحقة بالمزروعات والتجهيزات هو مؤشّر على عدم جاهزية لبنان للتعامل مع أخطار التغيّر المناخي، التي بدأت تظهر في السنوات الأخيرة على صورة أيام حرّ أكثر، وثلوج أقل، وحشرات تعيش عادة في المناطق الدافئة.في الأسبوع الماضي، هطلت الأمطار بكمّيات غزيرة وخلال فترة قصيرة، بما يفوق قدرة الأرض على استيعابها، ما تسبّب بسيول في مناطق عدّة في الشمال، وأضرار بالغة في الزراعة والبنى التحتية. ووفق رئيس مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية ميشال افرام، فقد تخطّى معدّل المتساقطات نحو خمسة أضعاف المعدّل المُسجّل في مثل هذه الفترة من السنة، ويعدُّ ذلك دليلاً إضافياً على التحوّلات المناخية التي يمرّ بها لبنان. وعلى رغم العوامل الكثيرة التي قد تكون سبباً لهذه السيول، كانسداد مجاري تصريف المياه نتيجة رمي النفايات العشوائي، إلّا أن هناك إجماعاً بين الخبراء البيئيين على أن لبنان بدأ يعيش تغيّرات مناخية جذرية، منذ بضع سنوات، وطقسه يبتعد تدريجاً عن صفة الاعتدال التي تميّز بها، ويفقد رويداً رويداً فصوله الأربعة.
يقول مدير أبحاث تغيّر المناخ والبيئة في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت نديم فرج الله أن «هذه الأمطار والسيول الجارفة، قد لا تعبّر عن حالة استثنائية، إلّا أنها صورة للمستقبل عن ضعف استعداد المجتمع والحكومة للتعامل مع التغيّرات المناخية المتوقّعة، والتي ستتفاقم أكثر وأكثر وتسبّب أمطاراً أكثر غزارة وبكمّيات أقل، وجفافاً أطول، وحرارة أعلى، وغطاءً ثلجياً أقل».
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هذا السيناريو، يترافق مع الاتجاهات العالمية للتغيّر المناخي الآخذ بالتفاقم وبوتيرة تتخطّى كلّ التوقّعات، ولبنان ليس بمنأى عنه، لا بل قد تكون منطقة الشرق الأوسط من أكثر المناطق عرضة للجفاف وارتفاع الحرارة، بما يصعّب سبل العيش فيها، لا سيّما في ظل غياب استراتيجيات مواجهة الأزمة وضعف آليات الحدّ منها، فضلاً عن تفاقم مسبّبات التغيّر المناخي وأبرزها استهلاك الطاقة، الذي يتسبّب بنحو 53% من مجمل الانبعاثات في لبنان.
في الواقع، بلغت حصّة الفرد من حجم الانبعاثات، في عام 2012، نحو 5.42 طن، مقارنة مع معدّل وسطي عالمي بنحو 6.6 طن للفرد الواحد، وفقاً لدراسة وضعتها USAID، (وهي الدراسة الأجدّ في هذا الإطار)، وهو معدّل مرتفع جداً في بلد غير صناعي، علماً أن هذه الانبعاثات آخذة بالازدياد وباطراد، إذ ارتفعت بنسبة 229% بين عامي 1990 و2012 مقارنة مع ارتفاع بنسبة 42% على مستوى العالم. وتشير دراسات وزارة البيئة وUNDP في عام 2016 (وهي الأجدّ عن التغيّر المناخي في لبنان) إلى أن استمرار هذه الاتجاهات بالوتيرة نفسها، ستؤدّي إلى ارتفاع الحرارة في لبنان نحو 1.7 درجة بحلول عام 2050 ونحو 3.2 درجة في عام 2100، كما ستنخفض كمية الأمطار بنسبة 11% في نهاية عام 2100، وسيتحوّل المناخ إلى أكثر جفافاً، وسيزيد عدد الأيام الحارّة التي ترتفع فيها الحرارة عن 35 درجة إلى 43 يوماً إضافياً. وترتّب هذه التغيّرات أكلافاً اقتصادية مباشرة وغير مباشرة تقدّر بنحو 320 مليون دولار في عام 2020 ونحو 23.200 مليار دولار في العام 2080، مع تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3% في عام 2020 وصولاً إلى 22% في 2080.
يفرض هذا الواقع تغيّرات جذريّة تطاول النمط الراهن لعيش الإنسان، وتؤدّي إلى ضرب قطاعات إنتاجية وتحويل الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية، وزيادة الأمراض والفقر، وفقاً لميشال افرام، وأولها «قطاع الزراعة كنتيجة مباشرة لشحّ المياه. فخلال هذا العام، ظهرت حشرة ذبابة المتوسّط على الجبال وفي البقاع، وهي لا تتواجد إلّا في الأماكن الدافئة، كما تراجع إنتاج القمح والشعير في البقاع. ويعود ذلك إلى تراجع نسبة الأمطار بنسبة 20-50% خلال عام واحد، وتساقطها في أوقات غير متوقّعة ما أدّى إلى تلف المحاصيل، فضلاً عن أن ارتفاع الحرارة وتراجع أيام الصقيع من 40 يوماً إلى 4 أيام، أدّى إلى تكاثر الحشرات التي أضرّت أيضاً بالمحاصيل».
ليست الزراعة هي المتضرّر الوحيد، بل هناك منظومة متكاملة مهدّدة وأزمات كثيرة متوقّعة. يقول نديم فرج الله: «في العام 2014 شهدنا فترات جفاف حادّة، قضت على موسم التزلج شتاءً بسبب انحسار الغطاء الثلجي الذي يعدُّ أحد أهمّ مؤشّرات التغيّر المناخي، كما أثّرت على السياحة الصيفيّة بسبب شحّ المياه واضطرار الفنادق لشراء المياه وبالتالي رفع أسعار الغرف لتغطية التكاليف الإضافية». ويتابع فرج الله «على رغم الوتيرة المُتسارعة للتبدّلات المناخية، إلا أن إجراءات احتوائها والحدّ من خطورتها لا تزال صوريّة، ولا توجد أي خطّة مترابطة لكلّ القطاعات تسهم بتحقيق تنمية مستدامة، فضلاً عن أن ضعف الثقافة البيئية يفاقم من حدّة هذه الظواهر ويحدث خللاً في المنظومة الأيكولوجية، بحيث تزيد دورة حياة الحشرات بسبب الحرّ وهجرة الطيور من لبنان نتيجة الصيد العشوائي، وهو ما يؤدّي بدوره إلى ضرب الزراعة وتراجع المحاصيل وزيادة الحاجة إلى الاستيراد، والأهمّ، يؤدي الحرّ إلى زيادة الأمراض لدى الأطفال والمسنّين، وارتفاع الجفاف الذي تتفاقم حدّته بسبب سوء إدارة المياه، فتزيد بنتيجته نسبة التلوّث في المياه وتتفاقم أيضاً بسبب عدم وجود محطّات تكرير، كما يرتفع الطلب على الكهرباء، وبالتالي تزيد الانبعاثات». إنها دوّامة مُفرغة، شبيهة بكرة ثلج تتدحرج، وكلّما تدحرجت كبرت أكثر وارتفعت أضرارها!