ليست فكرة إخضاع الفعالية الاقتصادية لصالح الفعالية السياسية جديدة في الأدبيات الاقتصادية والسياسية في العالم ولا في منطقتنا. يشكّل ذلك أحد أشكال التمييز بين اقتصاديات المركز والأطراف، أو هي خاصية من خصائص نمط الإنتاج الكولونيالي. والنتيجة أنه إذا كانت السياسة في خدمة الاقتصاد في الرأسماليات المتقدّمة، فإن الاقتصاد هو خادم للسياسة في الأنظمة الاستبدادية أو الشمولية (على ما في هذا الوصف من تبسيط).
نقطة أخرى تقتضي التوضيح: هل تعتبر السرقة مثلاً نشاطاً اقتصادياً؟ طبعاً، هي استحواذ على مال الآخرين، ولكن، ما لم نكن في مجال الفلسفة وعلم الأخلاق، لا مجال لاعتبارها نشاطاً اقتصادياً. استخدم هذا المثل للتمهيد لوصف ما يحصل في لبنان، سواء ما يحصل لجهة إدارة الموارد والاستحواذ على العائد، أو أي أشكال يتخذها هذا الأخير خارج العمليات الخاصة بالمنشآت الاقتصادية بأحجامها الاقتصادية كافة، التي يقوم بها الأفراد والعلاقات القائمة بينهم كأفراد في إطارها.
ثمة نقطتان هنا: الأولى، تتعلّق بالطبقات الاجتماعية بما هي طبقات لها مصالح جماعية إزاء الطبقات الأخرى والدولة والأفراد. والثانية، تتعلّق بالدولة – السلطة – أصحاب السلطة وعلاقتهم بالمؤسسات وبالاقتصاد الوطني (وغير الوطني).

الأداء الفئوي المجزّأ داخل الطبقة الواحدة
خلاصة رأيي في النقطة الأولى، أن الطبقة الرأسمالية اللبنانية فقدت إلى حدّ كبير قدرتها على تطوير مشروعها ورؤيتها كطبقة، وفقدت كذلك الأدوات والوسائل التي تسمح لها ببلورة مصالحها والتعبير عنها، بما هي مصالح طبقية تتطلّب اعتماد سياسات أو قوانين معيّنة. الشكل الطبقي لانتظامها السياسي يكاد يكون معدوماً، وانتظامها الفعلي على أساس مصالحها الاقتصادية البعيدة المدى يتمّ بأدوات ضعيفة جداً وغير كافية، أبرزها غرف التجارة والصناعة والزراعة، وجمعيّات المصارف والتجّار والصناعيين...إلخ، وبعض الجمعيات المهنية والنقابات المهنية. هذه الأدوات محكومة بثلاثة عوامل:
- التجزّؤ الفئوي داخل الإطار الواحد (لاحظ على سبيل المثل أن الزراعة مكانها هامشي جداً، مع تفاوت كبير بين قدرات ونفوذ الفئات المختلفة مثل المصارف، المقاولين العقاريين... إلخ)؛
- التمثيل الفئوي الكاسح لصالح حفنة من كبار أصحاب المصالح والرساميل، على الرغم من أن التشكيل الحقيقي للنشاط الاقتصادي هو للمنشآت الصغيرة والصغيرة جداً (أكثر من 90%)، ولكن لا تمثيل فعلياً لها في هذا الإطار؛
- خضوع عملية التمثيل وتشكيل الهيئات الاقتصادية لاعتبارات سياسية، وعلى أساس الولاء التبعي للقيادات والتيّارات التي تتقاسم المواقع داخل هذه الهيئات، بما يعزّز احتمالات الانقسام بالرأي وتشتّت المواقف تبعاً للمصالح السياسية، إلّا في الحالات البالغة الأهمية بالنسبة إلى مجموعة الفئة المعنية.
سيلفانو ميلو ــ البرازيل

بهذا المعنى، فإن الأداء الطبقي الجماعي يتراجع لحساب الأداء الفئوي المجزّأ داخل الطبقة الواحدة. كما أن الفئات لا تتشكّل على أساس وطني عريض، بل تتداخل في ذلك عوامل تجزئة مناطقية أو سياسية أو طائفية، أو تنغلق ضمن نطاق نشاط – مهنة محدّدة بشكل ضيّق. كما أن الخلط المتعمّد بين العام والخاص، وبين الوظيفتين الإدارية والسياسية لجهاز الدولة، وشخصنة الدولة والنظام (وهي كلها من خصائص الدولة الغنائمية)، تدفع أيضاً إلى ممارسة مشابهة داخل الاقتصاد، حيث تبرز الفعالية الاقتصادية غالباً في صيغة فردية، من خلال رجال أعمال أفراد، يسعون لتحقيق مصالحهم المباشرة من خلال استغلالهم النظام نفسه خارج القانون (مثلاً بدل وقف التهريب والتهرّب من الرسوم الجمركية لأنه ضارّ بالاقتصاد ككل، تبذل الجهود للاستفادة من ذلك لتقليل كلفة الإنتاج في مصانع الشخص المعني، أو التوسّع في تجارته).
كذلك، يجري استبدال توحيد الجهود ضمن مشروع مشترك للفئة أو الطبقة الاجتماعية المعنية بالسعي الفردي للدخول في جنّة السلطة، في صيغتها الحالية من دون فرص لمشاريع حقيقية للتطوير التشريعي أو المؤسّسي في صالح رأس المال نفسه، بما هو نظام. هذا ما يعبّر عنه الالتحاق المذلّ لرجال الأعمال باللوائح الانتخابية في الانتخابات النيابية الأخيرة، إذ إن ذلك لا يؤدّي إلى ضخّ أي عقلانية اقتصادية في عمل البرلمان أو الحكومة، بل سوف يتحوّل هؤلاء إلى مطبّلين للإجراءات المالية والاقتصادية غير العقلانية (من عدم إقرار الموازنة إلى إقرارها وضرائبها إلى خطّة ماكينزي السرّية حتى اللحظة)، وسيتحوّلون أيضاً إلى مستفيدين منها.

تغليب السياسي إلى حدّ إقصاء الاقتصادي
أما عن الأداء الاقتصادي للدولة اللبنانية في حالتها الغنائمية المتطرّفة الراهنة، فيتميّز بالإخضاع المتطرّف للاقتصادي لصالح التوازنات والمصالح السياسية في اللحظة الراهنة، ووضعها في خدمة المشاريع السياسية المتصارعة في لبنان، التي يغلب عليها - للأسف - طابع الامتداد لمشاريع إقليمية. إلا أن المسار الإقليمي نفسه شديد التعرّج وموازين القوى الداخلية متبدّلة بتفاعلها مع المسارات الدولية، أضف إلى ذلك، أن التمدّد الزمني للأزمة/الأزمات اللبنانية المتكرّرة (وبعضها لا يخلو من السخافة التي تولّدها الشخصنة وركاكة السياسيين اللبنانيين) يؤدّي أيضاً إلى «إرهاق دولي وإقليمي» من رعاية لبنان، ويؤدّي إلى توسيع هوامش الحرية للاعبين اللبنانيين في تحسين أوضاعهم وشروط التسويات والتفاوض ضمن المسار العام، وصولاً إلى الانتفاع الشخصي البحت ولو عن طريق الابتزاز السياسي والاقتصادي.
السياق السياسي العام لأداء السلطة والتيّارات السياسية يتميّز عموماً بتغليب السياسي إلى حدّ إقصاء الاقتصادي عن التأثير في اللحظات الحاسمة؛ كذلك يؤدّي إلى تعطيل وظائف السلطة التقليدية، بما هي تعبير مشترك ومتعال نسبياً عن المصالح الاستراتيجية والجماعية للطبقات الحاكمة، وبما هي إدارة عامة للدولة ومرافقها وخدماتها من خلال جهاز يتمتع بالحدّ الأدنى من الفعالية. مقابل ذلك تتحوّل السلطة ومؤسّسات الدولة والحكم إلى خادم مباشر للسياسة في وجهيها: الأول، خدمة المشاريع السياسية المتصارعة مع أبعادها الإقليمية؛ والثاني، هو خدمة المصالح المباشرة للأشخاص الحاكمين وللأحزاب المُمسكة بآليات السلطة، سواء كانت هذه السلطة موجودة فعلياً داخل المؤسّسات (الحكومة، البرلمان) أو خارجها (وهذه الأخيرة هي السلطة الحقيقية الأكثر تأثيراً التي تنتدب من يمثّلها إلى داخل مؤسّسات الحكم).
إن وظائف الدولة اللبنانية الرئيسية الراهنة تتلخّص في ما يلي:
أ‌- أنها تضمّ مندوبين عن أصحاب السلطة الحقيقية خارج المؤسّسات وخارج لبنان، وهم غالباً مندوبون غير مخوّلين بالتوقيع واتخاذ القرار (في القضايا الحاسمة يتمّ التفاوض واتخاذ القرار خارج المؤسّسات، وينحصر دور هذه الأخيرة في إخراج القرار وتوفير صيغة قانونية رسمية له. آخر التجارب الهامّة في هذا الإطار هو قانون الانتخابات، وفي هذه الأيام التفاوض على تشكيل الحكومة).
ب‌- إنها توفّر الاطار الشرعي الذي يسمح بالحصول على الموارد الخارجية بشكل خاص، من خلال القروض والهبات وتمويل المشاريع المختلفة وصولاً إلى المستوى المحلي، وهي حاجة ماسّة جداً مع الركود الاقتصادي ومع نضوب الموارد المحلية (مؤتمر سيدر، وغيره).
ت‌- إنها الإطار الذي يسمح بإعادة توزيع الموارد بين أطراف السلطة الفعلية السياسية والاقتصادية في شكل تعديل الحصص وتحويل الموارد من فئة إلى أخرى، وفق منطق القوة والسلطة لا وفق المنطق الاقتصادي أو الاجتماعي. وتندرج في هذا الإطار عمليات الرشوة من خلال المشاريع الصغيرة والفردية والتوظيف والتعاقد، وصولاً إلى الهندسات المالية التي لا يمكن تفسيرها وفق منطق اقتصادي بل وفق منطق التقاسم الغنائمي بين الأطراف القوية، مع جوائز ترضية ومكافآت ورشاوى هنا أو هناك للأطراف الأقل أهمية أو الأفراد الذين لهم دور في تسهيل هذه العمليات.
ث‌- إنها توفّر الإطار الذي يسمح بتقاسم الغنائم بين أطرف السلطة، وتوزيعها وفق تراتبية القوة وعلى مستويات مختلفة، واستخدام هذه الموارد (أو أجزاء كبرى منها) لتغذية الثروات الفردية أو لتمويل العمليات السياسية الخاصة بهذا الطرف أو ذاك، بما في ذلك التمويل الانتخابي والتوزيع المباشر أو غير المباشر على المحاسيب (المشاريع والتمويل الموزّع على البلديات، على سبيل المثل، بأسماء مختلفة من تنقية مياه الليطاني إلى مشاريع دعم المجتمعات المضيفة للسوريين إلى التلزيمات لمشاريع السدود، أو تزفيت الطرقات... إلخ).
ج‌- إنها تشكّل صيغة جديدة للمحسوبية والزبانية، من خلال تعميم السلوك الغنائمي على كل المستويات، بالفعل المباشر للدولة (التوظيف خارج القانون وخارج الحاجة) أو بالتغييب المتعمّد للدولة وعدم تطبيق القانون (دفع الفئات الاجتماعية إلى المواجهة من خلال تشجيع السلوك الغنائمي لأصحاب المصالح على حساب الآخرين، بدءاً من صاحب مولد الكهرباء في الحي، وصولاً إلى اصحاب المدارس الخاصة في ما خص رفع الأقساط المدرسية). وسياسة التعميم هذه تساعد على استدامة السلوك الغنائمي في المستويات العليا وإعادة إنتاجه انطلاقاً من الشبكة المتجدّدة من المنتفعين الجدد والقدامى، بما يساعد في تقويض جوهر فكرة الدولة المدنية وتعظيم إخضاع كل شيء لتزاوج السلطة والمصلحة، بما في ذلك ما يفترض أن يشكّل قواعد اقتصادية بديهية تسير النشاط الاقتصادي في النظام الرأسمالي.

أعراض شيخوخة الرأسمالية لا مقدّمات ولادتها
إن المزج بين السياسة والاقتصاد في الرأسمالية اللبنانية يتمّ لصالح التغليب المباشر لتزاوج أهداف المشاريع السياسية المتصارعة في لبنان، في بعدها الإقليمي/الدولي (وهو الغالب) وفي بعدها الداخلي، مع المصالح المباشرة لمن هم في مواقع السلطة الفعلية (داخل المؤسّسات وخارجها)، من أجل الاستحواذ على الموارد واغتنامها بالاستناد إلى منطق القوة والسلطة، بما هي تسلّط. وقد فقد رأس المال التعبيرات الناضجة عن مصالحه المشتركة، لا سيّما السياسية والقانونية، وبدل السعي لاستعادة التماسك على أساس المصالح الطبقية المشتركة والانتظام في شكل طبقة – فئة صاحبة مصالح ومشروع أو مشاريع خاصة بها، فهي تسعى إلى استمداد عناصر قوة فردية أو فئوية ضيقة ومباشرة من خلال الانضمام إلى نسق السلطة والمكاسب الغنائمية لا أكثر، على الأقل في المدى المنظور.
إن مفتاح فهم الاقتصاد اللبناني يكمن في السياسة أكثر ممّا هو في الاقتصاد، وهذا ما يفسّر التحاق بعض أبرز ممثلي المصالح الاقتصادية بقوى السلطة وتصريحهم بمواقف مخالفة لوجهة نظرهم كرأسماليين أحياناً، واندفاعهم للاندماج في التيار السائد الذي يعطى فرصاً للربح السريع المباشر، من خلال اقتسام المغانم الفورية والاستحواذ على حصة من الموارد الموجودة اليوم، خارج الرؤى والمصالح المتوسطة والبعيدة المدى لرأس المال نفسه في توفير الشروط المؤاتية لعمله على المدى البعيد.
إن غداً (المستقبل) ليس على جدول أعمال هذه الفئة من رجال الأعمال اللبنانيين المندمجين في السلطة الغنائمية اليوم، وهؤلاء هم نتاج الدولة الغنائمية في لبنان ورأسماليته الغنائمية. كأننا في مرحلة تشبه التراكم الأولي لرأس المال، التي سبقت نضج الرأسمالية وبلورة القواعد والقوانين التي تنظّم اشتغالها، إلا أنها متأخّرة تاريخياً هذه المرّة، وهي من أعراض شيخوخة الرأسمالية في المركز و الأطراف، لا من مقدّمات ولادتها.

إبقاء النظام حيّاً حتى الرمق الأخير
ربّما علينا أن نشير إلى استثناء يفصح عن رؤية بعيدة المدى لدى التحالف الحاكم في لبنان، وهو يتعلّق بالمراهنة على الريع النفطي المتوقّع. فهذه الغنيمة «الحرزانة» هي أساس ما تبقى من تماسك في التحالف الحاكم وفي التسوية الرئاسية. وهذا ينمّ عن تفكير استراتيجي ولكنه في الوقت نفسه يعدّ أقصى درجات الغنائمية، إذ بات الحفاظ على الآليات، وإعادة إنتاج الصيغة الجديدة من النظام السياسي والاقتصادي، بما في ذلك الصيغة الطائفية أو بدائلها، محكوماً بهذا الإحساس الغامر بأن أرباح النفط والغاز باتت قريبة جداً من التدفّق إلى جيوب من ينجح في البقاء في السلطة، وبناء عليه يجري وضع النظام والتسويات السياسية في غرف الإنعاش الشامل على كل المستويات، لإبقائه حياً – ولو على الرمق الأخير – إلى أن يحين موعد قطاف الغنيمة النفطية، إلا إذا كان الانفجار الإقليمي أكبر من قدرة التسوية الداخلية على الحفاظ على رمقها الأخير هذا، أو إذا كانت رعونة طرف داخلي ما هي السبب في ذلك.

* مستشار في قضايا الفقر والتنمية