يُعدّ تحديد طبيعة الرأسمالية في بلد ما - لبنان في حالتنا هذه - ضرورياً من الناحيتين النظرية والعملية. لا يعني ذلك الاكتفاء بالتحليل الجوهري لما تشترك به كلّ الرأسماليات (كأن نحدّد أنها تقوم على الملكية الخاصة وعلى استغلال العمل المأجور... إلخ)، أو الاكتفاء بدراسة خصائصها على المستوى الثاني من التفصيل (كأن نحدّد أنها رأسمالية مركزية أو أنها رأسمالية طرفية أو كولونيالية... إلخ)، بل يعني أن ننتقل في التحديد إلى مستوى أكثر دقّة من المعرفة والتحليل، ولا نبقى في التقسيمات الكبرى. فالرأسماليات المتحقّقة بالفعل في شكل دول وطنية هي تجلّيات شديدة التنوّع، وهي رأسماليات متعيّنة في ظروف تاريخية – اجتماعية، تنتج صيغاً متمايزة من النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولذلك فإن تحديد طبيعة كلّ منها يحتاج إلى درجة أكثر تقدّماً من التفريع وصولاً إلى فئات أكثر تحديداً؛ كذلك يحتاج إلى تنظير فرعي ومفاهيم فرعية تساعد على التقاط كيفية اشتغال هذه الرأسمالية اليومي، وفق تأثير كل العناصر التي تتشكّل منها، وكل العوامل التي تتفاعل لتشكّل محصلتها النهائية، أي الشكل الخاص الذي تتخذه والذي لا يتكرّر كما هو نفسه في رأسمالية أخرى.
كيف نصِف الرأسمالية اللبنانية؟
ثمّة أكثر من اتجاه، حتى ضمن التوجّه الفكري الواحد، في ما يخصّ المقاربة أو المنظور الملائم لتحليل الرأسمالية اللبنانية.
هناك أولاً الاتجاه السياسي، الذي يجعل من الطائفة والطائفية المفهوم المحوري الذي يُبنى عليه التنظير والتحليل والتفسير يميناً ويساراً. بهذا المعنى تصبح الطائفية – من منظور يساري - السبب المفسّر للتشوّهات في الرأسمالية اللبنانية، بما في ذلك حجب الصراع الطبقي واستبداله بالصراع الطائفي (وهو شكل للصراع الطبقي فقط، وفق أصحاب هذا الاتجاه، الذي يبلغ ذروته في مقولة الطائفة – الطبقة). ولا يرى هؤلاء أن الطائفية هنا تغيّر في جوهر الرأسمالية والعلاقات الطبقية في المجال الاقتصادي، بقدر ما أن فعلها سياسي وأيديولوجي مؤثّر في ممارسة الصراع الطبقي بإلباسه لباساً طائفياً، في حين أن جوهر العلاقات الاقتصادية الرأسمالية يبقى على حاله. يعتبر هذا الاتجاه أن التفاعل بين الرأسمالية والطائفية يتمّ بالدرجة الأولى في صيغة تحالف بين طرفين اجتماعيين – اقتصاديين، هما: الطغمة المالية (تعبيراً عن الرأسمالية في مجال الاقتصاد بشكل خاص) والإقطاع السياسي (تعبيراً عن الزعامات السياسية الطائفية ومجالها اجتماعي – سياسي بالدرجة الأولى). هكذا كانت لغة اليسار اللبناني منذ أواسط ستينيات القرن الماضي.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

هناك ثانياً الاتجاهات اليمينية، التي ترى في الطائفية وضعية طبيعية، وتعتبرها استمراراً لتاريخ لبنان وإعادة إنتاج للعلاقات الاجتماعية والزعامات التقليدية، التي تحوّل بعضها إلى أرستقراطيات أو بورجوازيات لا سيّما في لبنان المركزي، والتي قامت مع قوى أخرى بتشكيل نظام طائفي احتضن التحالف الاقتصادي – الاجتماعي – السياسي، الذي حكم لبنان حتى حرب 1975. يرى أصحاب هذا الاتجاه أن النظام المذكور اختلّ أثناء الحرب وبعدها وأعيد ترميمه في الطائف. إلا أن الاتجاه اليميني الذي استجدّ اعتباراً من التسعينيات، حمل سمات مختلفة بعض الشيء عن الاتجاه السابق. فقد حصل ضمن الاتجاهات الطائفية نفسها تحوّل نحو المزيد من الأدلجة والتصفية الداخلية للأطراف الضعيفة، وبالتالي انتقلت الطائفية من كونها ذات قاعدة محلية وتقليدية (زعامات عائلية متوارثة) إلى كونها طائفية وطنية (أي على امتداد الوطن)، ما عنى توحيداً للطائفة، بما هي طائفة على امتداد لبنان، تحت قيادة مركزية (موحدة مثالياً)، بدلاً من كونها تجميعاً لنفوذ سياسي تقليدي محلي – عائلي متعدّد.
في الصيغة اللبنانية التقليدية (الميثاق والطائفية السياسية التقليدية)، كان يقال عن النظام اللبناني إنه نوع من كونفدرالية طوائف (مع هيمنة لطائفة معينة ضمنه – المارونية السياسية في حينه)، وبالمعنى نفسه، فإن التعبير السياسي عن الطائفة/الطائفية التقليدية كان أقرب إلى كونها كونفدرالية عائلات سياسية تملك نفوذاً محليّاً. أما التحوّل الجوهري هنا، فتمثّل في الانتقال من التعدّد ضمن الطائفة على أساس محلي، إلى احتكار تمثيل الطائفة على المستوى الوطني، عبر تمثيل أحادي أو ثنائي يخفي أحادية أو أرجحية لطرف على آخر، مع سعي الأطراف القوية في كل طائفة لم تحقّق وحدانية التمثيل، إلى الهيمنة على التمثيل ضمن طائفتها وتقليد ما حصل في طوائف أخرى (دون أن يعني ذلك أنه سيتحقّق فعلاً).
الخلاصة هنا هي أن طائفية اليوم السياسية ليست طائفية صيغة 1943، بل هي أمر مغاير في جوانب كثيرة، ويتطلّب ذلك أن يولي التحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي عناية أكبر لرصد الاختلاف بين الطائفيات، أكثر من محاولة إسقاط صيغة الطائفية التقليدية والموقف منها على الواقع الراهن.

أيّ تحالف طبقي – سياسي في لبنان؟
نقطة أخرى تتعلّق بالنظام الطائفي لا بدّ من التوقف عندها، تخصّ التحالف الطبقي – السياسي الذي ميّز لبنان قبل الحرب (وربّما بعدها في صيغ أخرى كما سنوضح لاحقاً)، والذي تجسّد ذلك عبر صيغة تحالف بين الطغمة المالية والإقطاع السياسي، الذي نقترح أن نقرأه بأنه التحالف بين رأس المال والزعامات الاجتماعية – السياسية، التي لا تزال تملك صفة تمثيلية لقاعدة اجتماعية بمعزل عن قدراتها الاقتصادية (تحالف الاقتصاد والسياسة).
على امتداد هذه العلاقة خلال العقود التي سبقت الحرب عام 1975، كان التوزيع الوظيفي الغالب (مع بعض الاستثناءات) يقوم على مقولة «دعه يعمل دعه يمرّ» الاقتصادية، التي تُرجمت أيضاً في النظام السياسي عبر إيكال المسؤولية الاقتصادية لأصحاب رأس المال، وإيكال مهام التمثيل السياسي بالأرجحية للزعامات التقليدية، وهو ما مكّن الرأسمالية اللبنانية الخدماتية، المتطوّرة نسبياً في حينه، من التعايش والتحالف والتزاوج مع الطائفية والإفادة إلى الحدّ الأقصى من ذلك في كبح الصراع الطبقي وتعظيم الأرباح، وإن على حساب «العقلانية الاقتصادية»، لا سيّما بالنسبة إلى المصالح المتوسطة والبعيدة المدى لرأس المال، ودفع نحو تغليب الربح السريع والريع وما يتطلّبه ذلك من إنتاج وإعادة إنتاج العلاقات الطائفية والزبائنية. وفي توزيع الأدوار هذا، كانت العوامل الداخلية، بما في ذلك الاقتصادية، لا تزال تلعب دوراً مؤثراً وإن متمفصلاً على الرأسمال العالمي من خلال دور الوساطة التجارية – المالية التقليدية في حينه.
مع العولمة ومع الحرب - الحروب اللبنانية وعلى لبنان (احتلال إسرائيلي للعاصمة واعتداءات أخرى متكرّرة)- ثم مع اتفاق الطائف والاستتباع الإقليمي للبنان، ثم مع التطوّرات الإقليمية اللاحقة كلها... إلخ، كل ذلك أدّى إلى تغليب متطلبات الاندماج في الاقتصاد العالمي وامتدادته الإقليمية على رأس المال والرأسمالية اللبنانية، لا سيّما في الجانب الاقتصادي، وعنى ذلك ميل المشروع الرأسمالي اللبناني للتحوّل إلى مشروع إقليمي معولم بعناصر ومكونات محلية، أكثر مما هو مشروع رأسمالية لبنانية (لم تكن حقّاً موجودة في السابق)، وأكثر ارتباطاً واستتباعاً من الناحية الماكروية بالعولمة والأقلمة مما كان عليه الأمر في السابق بأشواط، لا سيما من حيث هو مشروع سياسي ومشروع دولة وليس مجرّد توسّع رأسمالي داخلي على مستوى المنشآت الاقتصادية ومؤسسات الدولة وخدماتها (تجربة الرئيس شهاب).
لذلك استبدل تحالف/توزيع الأدوار بين رأس المال والزعامات السياسية بتحالف بين رأس المال وقادة الميليشيات، مع أدوار متفاوتة للزعامات السياسية التقليدية التي استمرّ بعضها في لعب أدوار سياسية لأسباب خاصة بكلّ منها، والتي اشتركت كلّها في الحصول على الحماية الإقليمية، وهو ما مكّنها من عبور مرحلة الحرب الأهلية وما تلاها من حروب.

هل خسر المشروع السياسي لرأس المال؟
جانب آخر من الاختلاف عن المرحلة السابقة، تمثّل في الانتقال من توازن نسبي بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية، وبين المشروع اللبناني في حدود تشكّله النسبي والمشاريع الإقليمية، إلى خلل فاضح. فقد تغيّر التوازن بين دور الاقتصاد وممثليه في الحياة السياسية اللبنانية وبين دور الزعماء السياسيين المباشرين المتحدّرين من مزيج زعاماتي وميليشيوي مشترك أغلب الأحيان، والذين يشكّلون أيضاً امتداداً أو حلفاء لمشاريع وقوى إقليمية، ما همّش دور الاقتصاد والعقلانية الاقتصادية في السياسة اللبنانية.
خلال سنوات طويلة، كانت الدلالات الاقتصادية والاجتماعية لتحالف رأس المال – الطائفية وتوزيع الأدوار والأوزان بين ممثلي رأس المال المباشرين وممثلي السياسة (المعسكرة والمأقلمة) المباشرين، تميل بشكل متدرّج وحاسم لصالح الطرف الثاني ضمن صيغة إقليمية واضحة خلال مرحلة الطائف، إذ كان توزيع الأدوار الحاسم في السياسة والاقتصاد اللبنانيين هو إيكال المهمة الاقتصادية (من إعادة إعمار ونمو) إلى ممثلي رأس المال الأبرز في حينه، والذي مثّله مشروع الرئيس رفيق الحريري، في حين أن المهمة الأمنية والسياسية ولا سيّما السياسة الخارجية أُوكلت إلى سوريا مباشرة.
الصراع بين هذين المشروعين كان قائماً منذ اللحظة الأولى: المشروع الاقتصادي النيوليبرالي من جهة، ومشروع الدولة الأمنية من جهة أخرى. والمعروف أن هذا الصراع انتهى إلى خسارة كبيرة لمشروع رأس المال الذي سعى للتبلور كمشروع سياسي مرفوض إقليمياً، وإلى إعادة سيطرة حاسمة للمقاربة التي عبّرت عنها الدولة الأمنية المؤقلمة (ولا تزال بمعنى ما).
نتيجة ذلك، وإذا أردنا استخدام المفردات السابقة، فإن تحالف رأس المال – الطائفية في صيغته السابقة الذي كانت فيه السلطة موزّعة بشيء من التوازن الفعلي بين الطرفين، وبما يتيح لكلّ طرف تحقيق فوائد من التحالف، بما في ذلك إتاحة تحقّق نمو اقتصادي بحدود مقبولة، تحوّل اليوم إلى تحالف رأس المال – الميليشيات وقوى الأمر الواقع المدعومة إقليمياً (رأس المال مدعوم إقليمياً ودولياً أيضاً، ولكن بفعالية سياسية على الأرض أقل بكثير من فعالية الطرف الميليشيوي)، إذ فقد رأس المال العناصر المحدّدة لمشروعه اللبناني، وفقد تعبيره المستقلّ نسبياً عن نفسه كرأسمال، وتحوّل إلى أفراد أو جماعات من الرأسماليين (مصرفيون وصناعيون وتجّار ومقاولون عقاريون ومضاربون...إلخ) يلتحقون بصفتهم هذه بالتيارات السياسية من دون أن يعبّروا عن مصالحهم الجماعية كطبقة أو فئة من طبقة، ومن دون أن تتوفّر لديهم عناصر تبلور مشروع رأسمالية ما في لبنان.
لذلك، لا يتوقّع أن يؤدي اندفاع عدد كبير من رجال الأعمال والمتموّلين لدخول اللوائح القوية في الانتخابات، وفوز بعضهم وتحوّلهم إلى نواب في البرلمان، أي دور «رأسمالي» تحويلي في لبنان، ولن يتجاوز ذلك تمويل الحملات الانتخابية للأقوياء، واستمرار التمويل السياسي، واستخدام مواقعهم في السلطة للمزيد من الريع لا الإنتاج، الذي يتحوّل بدوره إلى غنيمة يتمّ الاستحواذ عليها أكثر مما هو ريع أو حتى فساد بالمعنى العادي. وللغنيمة هنا معنى عميق ودلالة خطيرة في الرأسمالية اللبنانية، التي باتت بالإمكان وصفها بأنها رأسمالية غنائمية متطرّفة.
ولنا عودة إلى ذلك في وقت لاحق.
*مستشار في قضايا الفقر والتنمية