«اسمع. هذا هو جوهر أن تكون ثريّاً: إنّه أمرٌ رائع بنحو لا يصدّق. هو يشبه أن تكون بطلاً خارقاً، بل أفضل. يمكنك أن تفعل أيّ شيءٍ تريده، والسّلطات لا يمكنها أن تطاولك. سيُتاح لك أن تلبس زيّاً تنكّريّاً أيضاً، لكنّ أرماني قد صمّمه، وهو يجعلك لا تبدو كالنّذل الحقير».الممثّل ماثيو ماكفاديين في مسلسل «وراثة»

وفق جايمس سكوت، إن الفلّاح في المجتمعات الزراعية القديمة كانت له ضمانةٌ أساسية في الحياة: «يحقّ لك ألّا تجوع». مهما حصل، وبغض النظر عن المرتبة والمكانة، ومهما جلبت الطبيعة، فإنه لا يجوز أن يموت أحد أفراد المجتمع جوعاً فيما هناك حبوبٌ مخزَّنة في مكانٍ آخر في القرية. هنا فكرة «الاقتصاد الأخلاقي» التي قامت حولها (في أكثر من مكانٍ في أفريقيا وآسيا) عاداتٌ وأعرافٌ وواجبات يجري تفعيلها في حالة الاستثناء والضيق، حتّى توزَّع الغلال بما يسمح بمرور الأزمة ونجاة الجميع.
(آريس ــ كوبا)

ثمّ جاء هادي العلوي وقال إنه لا يكفي أن تعيش وتتوالد، ففي مجتمعٍ فيه حدّ أدنى من العدالة والإنسانية، فإن حقّك أيضاً أن تحفظ كرامتك، أي أن لا تُذلّ في زواجك أو رزقك أو للحصول على سقفٍ فوق رأسك. من حقّك أن تنال هذه الحاجات الأساسية في الحياة من دون أن تضطر إلى أن تُطأطئ الرأس لأحد (مثلما أن الروح، في الأديان السماوية، ليست ملكاً لك ولا يحقّ لك التصرّف بها، فإن كرامتك، في بعض المدارس الإسلامية، هي أيضاً ليست لك، ولا يجوز لك - شرعاً - أن تهرقها). من هنا كان العلوي يرى أن بعض المهن (كمهنة الخادم) يجب أن تكون ممنوعة بالمبدأ، حتّى ولو قبلتها «السوق» وبغض النظر عن البدل والشروط، لأنها وظائف فيها امتهانٌ للفاعل، وتضعه - بطبيعتها - في حالة دونيةٍ أمام من يشغّله.
أمّا في العرف النيوليبرالي المُهيمن اليوم (وهنا لا نقصد العقيدة الاقتصادية فحسب، بل كامل الإيديولوجيا التي نشأت حول الرأسمالية المعاصرة، والتي ترى العالم مثلها، وتبرّرها وتؤمّن استمرارها) فلا يوجد إلّا أفراد. وهؤلاء الأفراد لديهم «أذواق»، تأتي من لامكان، وهذه «الأذواق» والتفضيلات تتبارى في السوق - إن كانت حرّة - لتحدّد القيمة والأسعار. هذه معادلةٌ بسيطة وجميلة، يقول الاقتصادي علي القادري في كتابٍ أخيرٍ له («الطّوق العازل The Cordon Sanitaire»، دار بلغرايف ــ ماكميلان، 2018)، بل هي جميلةٌ إلى درجةٍ خادعة: يكفي أن تضيف بعض «العدلوية» إلى هذا النظام (وزّع قليلاً، حارب الفساد، أوصل أناساً أكفياء إلى الحكم، إلخ) حتّى يصبح كلّ شيءٍ ممتازاً ومثالياً. أنا أحاجج بأن أكثر دعاوى الإصلاح و«التنمية» والتغيير السياسي في بلادنا العربية اليوم، من لبنان إلى العراق ومصر وغيرها، تنطلق بتأثّرٍ من هذا الإطار النيوليبرالي وتقوم على تمييزٍ موهومٍ - بتعبير القادري - بين «رأسمالية جيّدة»، كالتي في أوروبا، و«رأسمالية سيّئة» تحتاج إلى «إصلاح». هذه النظرة الشائعة في العالم اليوم هي التي أعادتنا، في الحديث عن التنمية والفقر، إلى ما يشبه «نظرية التحديث» أيام الخمسينيات، حيث الفوارق بين الدول ومصيرها له أسبابٌ مؤسسية أو ثقافية فحسب: يكفي أن تقلّد نموذجاً بإخلاص، أو أن تغيّر نظرتك إلى الإدارة والسياسات، حتى تسير على طريق اليابان وكوريا، حتّى ولو كان التاريخ الحقيقي، والأحداث، والتجارب المأسوية، كلّها تشير إلى غير ذلك.

الإنتاج عبر التدمير
في الظاهر، إن كتاب القادري مقارنةٌ في الاقتصاد السياسي لإقليمين (شرق آسيا والعالم العربي)، ولكنه في عمقه نقاشٌ في النظرية الاقتصادية وقانون القيمة (على الهامش: لا أعرف أحداً ينشر بالغزارة التي ينشر بها علي القادري في السنوات الأخيرة، باستثناء مثقّف عربي، كنت كلّما ألتقيه يعطيني ثلاثة أو أربعة كتب أصدرها منذ لقائنا الأخير قبل أشهر - ثمّ أسرّ لي في ما بعد بأنه لا ينشر إلّا ثلث ما يكتب، ويُبقي الثلثين «في الدُّرج»). وفق القادري، إن الفارق بين حال التنمية والتصنيع وارتفاع المداخيل وتقلّص الفوارق في شرق آسيا منذ عام 1980، وبين الفشل الاقتصادي والحروب وانتشار الفقر في العالم العربي ليس فارقاً بين دولٍ «تُدار جيّداً» وأخرى تفتقر إلى الحوكمة؛ بل هو أساساً الفارق بين إقليمٍ تجري المراكمة الرأسمالية فيه عبر التصنيع والعمل وإنتاج السلع المدنية للأسواق الغربية، وبين عالمٍ عربي يجري «استخلاص الفائض» فيه عبر العسكرة (militarism) وتدمير القيمة، والسيطرة على الثروات بشكلها الخام.
نمط العسكرة في العالم العربي يُحطّم الدول ويسلب الطبقة العاملة أي سيطرةٍ على ثرواتها أو «إمكانية للتفاوض على بيع عملها»


لاقت أميركا سلسلة من الهزائم والتراجعات في آسيا منذ الخمسينيات، وأهمّها خسارة الصين، فاضطرّت إلى إحاطة الصين النامية والنووية بسلسلةٍ من الدول الحليفة («طوقٌ عازل»)، من اليابان إلى تايوان، وأعطيت النُّخب في هذه الدول هامشاً واسعاً للتنمية والاستقرار والتصنيع، وبعضها - كاليابان وكوريا - معدٌّ للتحوّل، خلال برهةٍ قصيرة، إلى قوى نووية في مواجهة الصين عند الضرورة. أمّا في العالم العربي، فقد أدّت الهزائم العسكرية المتوالية للأنظمة الوطنية، خصوصاً في 1967 و1973، إلى فتح المنطقة على نمط «الحملة الإمبريالية»، حيث يجري تفكيك الدول وتحطيمها بالحرب، و«استهلاك» العمّال عبر إزهاق أرواحهم بدلاً من تشغيلهم في المصانع، فيما تسلّمت الحكم بعد الهزيمة في الدول العربية الكبرى نخبٌ تجارية وكومبرادورية (بدلاً من التحالفات الطبقية التي حكمت في الستينيات والسبعينيات)، مهمّتها فتح البلاد على رأس المال الأجنبي بدلاً من حشد الموارد للتنمية. في هذا الإقليم، دور «الطّوق العازل»، وهو يتمثّل بدول الخليج وإسرائيل، يتمثّل باستدامة منطق العسكرة هذا ضدّ الدول المهزومة. المسألة الأساس هي أن نَمَطيْ الإنتاج، في شرق آسيا وفي العالم العربي، يتبعان على اختلافهما قانوناً واحداً، كونيّاً، وهما مرتبطان بشكلٍ وثيق.
فكرة «خلق القيمة عبر التدمير» قديمةٌ في الاقتصاد السياسي، منذ تكلّم ماركس عن دور الأزمات في الرأسمالية (وهي، كان ماركس يقول، تنقل الثروة «من الفئة الصناعية الى الفئة المالية»)، وشومبيتر لديه نظريّة شهيرة عن «التدمير الخلّاق»، ولكن القادري يقصد عملية مُحدّدة. حتّى نبسّط الفكرة، وإن بشكلٍ مخلّ، فلنطبّق المبدأ على حالةٍ ضمن بلدٍ واحد. في أميركا، منذ صعود «الاقتصاد الرقمي»، خرجت فئةٌ من الموظّفين والخبراء وعلماء الكمبيوتر تنشئ شركات تقنية وتنتج قيمةً بنحو هائل ولديها تعليمٌ ممتاز ومعرفة. هؤلاء، بالمعنى المادي المباشر، عمّال «منتجون» إلى أقصى حدّ، وبعضهم أصبح ثرياً للغاية. في الوقت نفسه، في مرحلة الاقتصاد «ما بعد الصناعي»، تعرّض عموم العمّال في أميركا لـ «تدميرٍ» لمهاراته (de-skilling). لم تعد السّوق في حاجةٍ إلى ملايين الصناعيين المهرة ومشغّلي الآلات والحرفيين، وانزاح القسم الأكبر من الطبقة العاملة إلى قطاع الخدمات، وإلى وظائف (كالمطاعم والتوصيل والخدمات المكتبية) لا تحتاج إلى مهاراتٍ ولا يملك العامل فيها قوّة تفاوضٍ أو ضمانات. هنا، حصل «تدميرٌ للقيمة» (انخفضت مهارات العمّال، والخدمات التي تقدّم إليهم، ومستوى مدارس أبنائهم، واستهلاكهم، وكلفتهم الإجماليّة) في مكانٍ، وتوليدٌ لها في مكانٍ آخر، والاقتصاد - ككلّ - ينمو ويحقّق أرقاماً جيّدة، فيما يجري تبخيس قيمة عموم العمّال وحصتهم من الدّخل. لا يمكنك أن تقارن بعد ذلك وفق الأرقام وحدها، وتقول إن الموظّف في «غوغل» هو، ببساطة، نشيطٌ ومُنتج، فيما الآخرون كسالى. إن التبخيس و«التدمير» الذي تعرّض له العامل، هو الوجه الآخر للـ«إنتاجية» في القمّة، والاثنان جزءٌ من منظومةٍ واحدة، ولا معنى للأرقام من دون أن تفهم «تاريخها».

هذا التدمير، وتحرير الموارد من أهلها، أكثر ربحيّة من استغلال العمّال في مصنعٍ والاستفادة من فائض إنتاجهم


هذه العمليّة، بمعنى ما، تجري على المستوى الدولي، يقول القادري، ولكن بشكلٍ أشدّ عنفاً وتدميراً بكثير. بل هو يدفع في أحد فصول الكتاب بأن العائد الذي ينتج للمركز الغربي عبر «التدمير» في إقليمنا (وهذا لا يقتصر على صناعة السلاح أو فتح الأسواق؛ التدمير في ذاته يعيد تشكيل القيمة وقوّة العمل على المستوى العالمي؛ التمدّد العسكري الغربي يقوّي مركز الإمبريالية؛ وإخراج الطبقة العاملة العربية من المعادلة وقتل أبنائها يتيح «رشوة» طبقةٍ عاملةٍ في مكانٍ آخر حتّى تتولّى الإنتاج الصناعي). نمط العسكرة في العالم العربي يُحطّم الدول ويسلب الطبقة العاملة أي سيطرةٍ على ثرواتها أو «إمكانية للتفاوض على بيع عملها»، كما يقول القادري (لمن لديه شكوكٌ في الموضوع، تكفي مراجعة لائحة بالدول التي تم تدميرها بشكلٍ كامل ومباشر، عبر الغزو والحرب الأهلية، في المنطقة خلال العقود القليلة الماضية: لبنان، العراق، سورية، فلسطين، اليمن، ليبيا، السودان، الصومال). المسألة ليست فقط في أن هذا التدمير، وتحرير الموارد من أهلها، أكثر ربحيّة من استغلال العمّال في مصنعٍ والاستفادة من فائض إنتاجهم، بل هي أن تدمير القيمة في العالم العربي وإفريقيا هو ما يتيح تحويل شرق آسيا (طالما أن المنطقة في مرحلة سلمٍ، وأميركا لا تقدر على إشعال الحرب فيها) إلى «مصنعٍ» للعالم (حيث يحصل «الاستغلال الصناعي» بالمعنى الكلاسيكي)، فيما دول المركز تحصل على الريع والامتيازات المالية ويكثر فيها «العمل غير المُنتج» ويتضخّم القطاع المالي والعسكري. يكرّس علي القادري القسم الأكبر من كتابه لإثبات هذه العلاقة وأن التدمير والإنتاج والريع يحكمها، في العالم اليوم، قانونٌ واحدٌ للقيمة.

العبيد لا يمارسون السياسة
أن تخضع لنمط الإنتاج عبر «العسكرة»، كما يحصل في بلادنا، يعني أنك لا تشبه العامل الصناعي الذي «يجري استغلاله» وتربّح «الفائض» من عمله، فهذا محظوظٌ، بل أنت أقرب إلى حالة «العبودية» كما شهدناها في بدايات الرأسمالية. بلادك لا تملك سيادة، أنت لا تقدر على تقرير شكل اقتصادك أو قيمة عملك، بلدك يرزح تحت الدين أو الاحتلال، والنُّخب الحاكمة لا تكتسب الشرعية عبر الاستثمار في الشعب (كما كان الحال في الحقبة الماضية)، بل إن دورها يتمثّل في إنفاد سياسات «التحرير» واللبرلة، وبناء جهازٍ قمعيٍّ يسمح بتمريرها من دون اعتراض. الطبقة العاملة ضعفت وانقسمت وليست منظّمة، وحتّى المجتمع المدني ودور المثقفين والنخب، يضيف القادري، ضعف مع انحسار الدولة، وأصبح هناك مجتمعٌ مدنيّ يموّله الغرب ويعمل على نشر الإيديولوجيا المُهيمنة (حيث الحقوق فردية فحسب ولا وجود للحقوق الجماعية، والهويات الفرعية تعلو على الدولة وأي هوية أخرى). «الطبقة العاملة» ليست شيئاً واحداً، ولا هي «البروليتاريا» التي تحتاج إلى وعيٍ وتنظيم. الطبقة العاملة تنقسم إلى فئاتٍ متعارضة، وأغلب اللعبة في المجتمع الرأسمالي تقوم على تقسيم هذه الطبقة إلى درجاتٍ ومراتب: هناك من يعيش حياة عوزٍ وخوف، وهناك من يعمل براتبٍ أجنبي في بلاد الجنوب، وهناك من يصبح جزءاً من النخبة العالمية، والبعض يحصل على بيوتٍ فخمة وأملاك (التملّك وتجميع الأصول، وفق القادري، هو علامة الامتنان التي يعطيها النظام إلى أكثر موظّفيه إخلاصاً)؛ هؤلاء كلّهم «عمّال» ولكنّهم ليسوا «في قاربٍ واحدٍ». الطبقة العاملة تنقسم إلى طوائف وهويّات، وتتقاتل في ما بينها - ومفهوم «الطبقة العاملة» هنا لا يعني «عمّال المصانع» مثلاً، بل كلّ قوة العمل في المجتمع؛ العمل المُجدي و«غير المُجدي»، والعاطلين، والذين يقتلون مبكراً في الحروب، فهؤلاء كلّهم ــ يكتب القادري ــ يحدّدون، بشكلٍ جماعيّ ووفق مصائرهم التاريخية، قيمة العمل في العالم.
من هنا، يبدو الكلام عن «الإصلاح» في بلدٍ مثل لبنان، شهد عموم شعبه، توالياً، كلّ أشكال التدمير (الحرب، بأصنافها المختلفة، ثمّ النيوليبرالية و«إعادة الإعمار»، ثم الاستثمار المستمرّ في تقاتل الهويات الطائفية) نوعاً من التفاؤل غير المبرّر. يوجد انطباعٌ عام في لبنان بأنه يكفي أن ننوي ونتوحّد حول ضرورة الإصلاح، ونطرد الفاسدين ونشمّر عن سواعدنا، والباقي تفاصيل. نشمّر عن سواعدنا حتّى نفعل ماذا؟ لبنان مثالٌ على مسألة تناولها القادري في تضخّم القطاع المالي في الرأسمالية الحديثة، وأنّه لا يمكن أن يتوسّع هذا القطاع ويتضخّم (يوصّفه المؤلّف بأنه «طبقات وطبقات من الدين») إلّا على حساب الاقتصاد الحقيقي، وهذا يحصل عبر سياسات التقشّف أو الحرب. في لبنان، لا يوجد قطاعٌ أو إنتاجٌ يقترب من قيمة الدين العام والقطاع المصرفي. لا يوجد نشاطٌ يقارب حجم تدوير الدين وفوائده، أو أرباح المصارف. هذا التوسّع التمويلي يتحقّق، فعلاً، عبر «ابتلاع» الاقتصاد الحقيقي وتركيب دولة «التقشّف المطلق»، التي لا تستثمر في المجتمع وتستنزفه بالضرائب حتى تنفق حصراً على خدمة الدين وطبقة الموظّفين (بمن فيهم الأمنيون والعسكريون، الذين يسهرون على بقاء هذا النظام واستمراره). دولةٌ يتمحور فيها الاقتصاد، والضرائب والمالية العامة، واستهلاك الناس، وقيمة العملة، وكلّ شيءٍ حول خدمة هذا القطاع المالي وتدوير الدين المتعاظم (الذي أضيف إليه دينٌ خاص وعقاري يلتهم مداخيل الأسر).

المجال الوحيد للفعل قد يكون على شكل تنظيماتٍ اقتصادية ومشاريع جماعيّة، ولو على مستوى محلّي صغير، تؤمّن إطاراً لبعض العمّال وتحرّرهم، وإن جزئيّاً، من العمل بالأجر وعبوديّة السوق


بالمعنى نفسه، لا أفهم من يطالب المقاومة بأن تجد حلّاً اقتصاديّاً واجتماعيّاً للبلد. حتّى لو افترضنا وجود الرغبة والإرادة، والخطّة المناسبة (المُتحرّرة بالكامل من الإيديولوجيا النيوليبرالية السائدة)، فمن المستحيل أن تنشئ إجماعاً على مشروعٍ اجتماعيّ في لبنان؛ فالطبقة العاملة منقسمة طائفياً، والنظام الدستوري والسياسي من حولك ينحو إلى تعزيز الانقسام وتوالده، ولا يفتح مجالاً لجسره، ومهمّته أن يحضّر باستمرار للحرب المقبلة. الدستور اللبناني (دستور الانتداب و«الطائف») هو، مثل عملية «إعادة الإعمار» في التسعينيات، نموذجٌ مبكر عن الدساتير التي تفرض من الخارج في دولٍ مثل العراق (وقريباً سوريا وليبيا، وربما اليمن)؛ وعمليّة «إعادة الإعمار» لا ترمي ــ يقول القادري ــ إلى بناء قاعدة البلد الصناعية والاستثمار فيه وإنهاء آثار الحرب، على الطريقة الآسيوية، بل إلى «تمهيد الميدان»، بالتشارك مع الدستور والنظام السياسي، للحرب المستمرّة. فتكون «إعادة الإعمار» جزءاً من الحرب ودورتها، لا اختتاماً لها. بناء «دولة تنموية» في هذا السياق أمرٌ مستحيل، والأمان والسيادة والاستقلال هي، أصلاً، شرطٌ أوّلي لأي عملية تنمية، ونحن في إقليمٍ لا دول سيّدة فيه، والحرب ــ يقول القادري ــ هي «الأمر الوحيد الذي تضمن حصوله في المستقبل، وإن كنت لا تستطيع أن تحدّد موعده»؛ ولا نجد على الضفّة الأخرى سوى «بؤر مقاومةٍ» في هذا البلد وذاك، تحارب عسكرياً وحدها ضدّ الجيوش الغربية و«الطّوق العازل».

خاتمة: «مشروع المزرعة»
حين يكلّمني رفاقي المسيّسون عن مواضيع في السياسة، فأجيبهم بالكلام عن مشروع المزرعة، ينظرون إليّ وكأنّني أخرج عن الموضوع («المزرعة» مشروعٌ أعمل عليه مع رفاقٍ منذ سنوات، هدفه إيجاد نموذجٍ ناجح وقابل للاستنساخ لمزرعة جماعية. وقد بحثنا في احتمالاتٍ لا تحصى، وتقنيات كثيرة، ولم نتوصّل بعد إلى صيغةٍ مربحةٍ وتكون ضمن القانون). المسألة أن «السياسة» بالنسبة إليّ هي هنا تحديداً، أو تبدأ من هنا. هذا هو التحدّي الأساسي الذي يواجهنا جميعاً في حياتنا: ما مصيرك، كفردٍ، في عالمٍ يقوم على تبخيس ثمنك وقيمة حياتك، ولا يعتبرك «عاملاً» مُنتجاً يستحقّ الاستثمار و«الاستغلال»، بل وقوداً للحرب والموت المبكر (ولن يهتمّ لك أحدُ في العالم الغربي حين تموت)؟ نحن لم نعد في مجتمعٍ نقابات وأحزابٍ حقيقيّة، ومؤسّسات وتنظيمات ونوادٍ للطبقة العاملة «تحتويك» وتضمن لك حقوقاً وتنظّمك وتثقّفك، بل إنّنا (إن لم نكن ننتمي إلى الأرستقراطية أو الطبقة الحاكمة) أفرادٌ وحيدون في عالمٍ قاسٍ، نقف مقابل قوىً أكبر منّا بكثير، ومخاطر وحاجات. الفكرة خلف «مشروع المزرعة» هي أنّك تحتاج إلى «استقلالية» ما حتّى تكون كائناً سياسياً، يمكنه أن يفكّر بحريّةٍ وأن يفعل؛ وأنت تحتاج إلى جماعةٍ متضامنة حتّى تنتج أفكاراً وثقافةً مختلفة. كيف تتكلّم على السياسة والاستقلال وأنت أسير عملٍ مأجور بلا أيّ ضمان، يعاملك رئيسك كعبدٍ ويذلّك كلّ يوم؟ ما معنى أن تكون لك آراء جذرية في السياسة إن كنت ستضطرّ إلى العمل، في نهاية الأمر، لدى المؤسسة الغربية أو في منظّمة دولية أو عند الزعيم الطائفي، حتّى تصبح من «الأرستقراطية العمّالية»، لا من «الفاشلين»؟ وما قيمة الكلام على الأخلاق والمبدئية إن كنت ستضطرّ إلى الكذب والسرقة والفساد من أجل إطعام أبنائك؟
القادري، في مكانٍ من كتابه، يوافق على هذه الفكرة العامّة، حين يكتب أنّه - في غياب الدولة التنموية وإضعاف الطبقة العاملة - المجال الوحيد للفعل قد يكون على شكل تنظيماتٍ اقتصادية ومشاريع جماعيّة، ولو على مستوى محلّي صغير، تؤمّن إطاراً لبعض العمّال وتحرّرهم، وإن جزئيّاً، من العمل بالأجر وعبوديّة السوق. يتنبّأ القادري بأن مستقبل الكوكب سيتقرّر في شرق آسيا، إمّا عبر موجةٍ مُدمّرة من «العسكرة»، وهو الحلّ الوحيد المُمكن في وجه صعود الصين، أو عبر تغييرٍ بنيوي لمصلحة السلام لن يحصل إلّا إن تخلّت دول «الطّوق العازل» في شرق آسيا عن دورها كقواعد عسكريّة للغرب، وفضّلت التقارب مع الصين. مهما تكن نتيجة المواجهة شرقاً، فإن إقليمنا تحكمه - وتحكم حياتنا - قواعد مختلفة وخيارات قاسية ثقيلة، ولكن لا بدّ من مواجهتها، حتّى وإن تبيّن أن السبيل الوحيد لحفظ حياة شعبك وكسر دورة الموت هو في تغيير طبيعة العالم وميزانه.