للمرّة الأولى، فاق معدّل دولرة الودائع معدّل دولرة القروض في لبنان، وهو ما يعكس تحوّلات كبيرة في نظرة المتعاملين في السوق وكبار المودعين وتوقّعاتهم، وخصوصاً لجهة الثقة بالعملة المحلية، وهو يعكس أيضاً الأثر المباشر للعمليات التي يقوم بها مصرف لبنان للسيطرة على السيولة واقتراض ما تيسّر من دولارات لدى المصارف التجارية. ووفق بيانات مصرف لبنان في نهاية أيار/ مايو 2018، ارتفع معدّل دولرة الودائع إلى 68.3%، فيما انخفض معدل دولرة القروض إلى 67.7%، وهذا عكس المنحى السابق، إذ كان معدل دولرة القروض أعلى دائماً من معدل دولرة الودائع، ولم ينخفض قطّ على 70% إلا اعتباراً من آذار/ مارس الماضي!
أنقر الصورة للتكبير

يوصف الاقتصاد اللبناني بأنه «مدولر»، أي إن تعاملات المقيمين في البلد تجري بعملة أجنبية غير عملتهم، سواء تعاملاتهم مع مقيمين آخرين، أو تعاملاتهم مع غير المقيمين. يعدّ معدّل «الدولرة» مؤشّراً بالغ الأهميّة على نظرة المتعاملين في السوق وتوقّعاتهم وثقة المودعين بالعملة المحلية ودرجة المخاطر المحتملة على سعر الصرف والتضخّم. ويقاس هذا المعدّل عادة من خلال احتساب نسبة الودائع بالعملات الأجنبية من مجمل الودائع لدى المصارف، ونسبة التسليفات المصرفية من مجمل التسليفات... وعلى صعيد أوسع، تُحتسَب نسبة الشيكات المُحرّرة بالعملات الأجنبية من مجمل الشيكات المتقاصة لدى مصرف لبنان، تعبيراً عن العملة المعتمدة في التعاملات التجارية المحلية، وكذلك نسبة مجموع الدين الخارجي (بالعملات الأجنبية) من مجمل الدين المترتب على الاقتصاد.
تاريخيّاً، وقبل عام 2018، فاقت على مرّ السنوات نسبة دولرة القروض نسبة دولرة الودائع. بمعنى أدق، فاقت نسبة القروض بالدولار من إجمالي القروض، نسبة الودائع بالدولار من إجمالي الودائع. السبب كان تحديداً انخفاض أسعار الفائدة على الدولار (مقابل أسعار الفائدة على القروض بالليرة)، وهو ما جعل المقترضين من القطاع الخاص يتجهون إلى الاقتراض بالدولار لخفض كلفة التمويل. بينما كانت تمثّل أسعار الفوائد المرتفعة على الودائع بالليرة اللبنانية عامل إغراء لدفع بعض المودعين إلى الإيداع بالليرة وجني الأرباح. في المجمل، ظلّ حجم الودائع بالدولار أكبر من حجم الودائع بالليرة، لكن نسبة الدولرة في الودائع كانت دائماً أقل من نسبة الدولرة في القروض للأسباب المذكورة.
في هذا المجال، لعبت سياسة مصرف لبنان في تثبيت سعر الصرف (الليرة في مقابل الدولار) دوراً أساسيّاً في تكوين هذه الصورة. فالحفاظ على ودائع بالعملة المحلية يعني تحمّل مخاطر سعر صرف العملة (أي مخاطر انخفاض قيمتها)، بينما يعني الحصول على قروض بالدولار تحمّل مخاطر مماثلة، إذ إن ارتفاع قيمة الدولار إزاء الليرة يعني تلقائياً ارتفاع قيمة القرض. كانت سياسة تثبيت سعر الصرف هي الضمانة بالنسبة إلى هؤلاء المودعين والمقترضين لكي يودعوا بالليرة ويقترضوا بالدولار.
لكن في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام تغيّرت الصورة. فارتفاع معدّلات دولرة الودائع من 64.9% سنة 2015 (أقل مستوياتها) إلى 68.3% في نهاية أيار من هذا العام، وانخفاض معدّلات دولرة القروض من 76.5% سنة 2013 (أعلى مستوياتها) إلى 67.7% في نهاية أيار، جعلا معدّل دولرة الودائع أعلى من معدّل دولرة القروض، للمرّة الأولى.
ماذا يعكس هذا الأمر؟ من ناحية أولى، يعكس اتجاه المقترضين إلى الابتعاد عن الاقتراض بالدولار الأميركي تدريجاً، مقابل الاتجاه إلى الاقتراض بالليرة اللبنانيّة (علماً أن التسليف راكد حالياً). وإذا أخذنا بالاعتبار ارتفاع فوائد الليرة مقابل الدولار، ندرك فوراً أنّ الدافع الأساسي هنا هو التخوّف من ارتفاع قيمة القروض في حال ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة.
ومن ناحية الودائع، يعكس هذا الأمر اتجاه المودعين إلى تحويل الودائع إلى الدولار الأميركي، بمعزل عن معدّلات الفوائد الأقل مقارنة بمعدّلات الفوائد على ودائع الليرة اللبنانية. تعكس هذه المسألة بطبيعة الحال تخوّفات المتعاملين في السوق من الوضع الاقتصادي وقدرة المصرف المركزي على الحفاظ على سعر الصرف على حاله.
لكن المسألة الأساسية هنا، أن هذا المسار في حال استمراره سيعني تلقائيّاً وتيرة عالية من الضغط الناتج من زيادة طلب الدولارات في السوق، وهو ما يعني خلق ضغط إضافي على مصرف لبنان في ظل عجز متفاقم ومستمرّ في ميزان المدفوعات (الذي يمثّل صافي تبادلات لبنان المالية مع الخارج)، إذ سجّل ميزان المدفوعات عجزاً بلغ 4.3 مليارات دولار حتّى أيار/ مايو الماضي، وهي صورة حاول مصرف لبنان تجميلها بإضافة بنود لا تتعلّق بميزان المدفوعات.
هنا تصبح المشكلة إصرار مصرف لبنان على المزاوجة بين سياسة تثبيت سعر صرف العملة من جهة، ووجود اقتصاد مدولر ومنكشف إلى حدّ بعيد. وهذا ما تظهره نسبة الدولرة المرتفعة للشيكات المتداولة التي بلغت 68% في 2017، على الرغم من انخفاض هذه النسبة بفعل الركود الاقتصادي، الذي أدّى إلى انخفاض في حجم الشيكات المُحصّلة بالدولار الأميركي (من دون أن يرتفع حجم الشيكات بالليرة بالقيمة نفسها). بمعنى آخر، إن العملة التي يعتمدها السوق في المداولات التجارية هي الدولار في الدرجة الأولى.
* للتواصل: [email protected]