في 11 أيار/ مايو 2018، اختتم المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي مشاورات المادة الرابعة مع لبنان لعام 2018. إلا أن التقرير الخاص بنتائج هذه المشاورات لم يُنشر حتى الآن، ما أثار الكثير من التساؤلات عن أسباب عدم نشره، لا سيّما أن بعثة خبراء الصندوق، التي وضعت مسودة هذا التقرير، أو صيغته الأصلية، كانت قد أنهت مهمّتها في بيروت في 12 شباط/ فبراير، وأعلنت بيانها الختامي منذ 5 أشهر تقريباً. فما الذي يحصل؟ تفيد المعلومات المتداولة أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يعترض على بعض مضامين التقرير المذكور، ويبذل مساعي حثيثة لإدخال تعديلات جوهرية عليه للموافقة على نشره. إلا أن البيان الصادر عن المجلس التنفيذي، والذي تأخّر صدوره حتى 22 حزيران/ يونيو، أعلن بصراحة تامة أن «المديرين التنفيذيين يتفقون مع الخطّ العام لتقييم خبراء الصندوق»، ما يعني أن سلامة فشل هذه المرّة بإدخال التعديلات التي يريدها، على عكس ما كان يجري في السنوات الماضية. وهو ما عُدَّ بداية تحوّل في موقف الصندوق تجاه الوضع اللبناني وعلاقته مع مصرف لبنان. وهنا بيت القصيد، فالضغوط التي يمارسها الصندوق والوصفات التي يقترحها يمكن أن تجعل الوضع أسوأ ممّا هو عليه الآن، لا سيّما لجهة نقل الأزمة من القطاع الخاص إلى القطاع العام وتحميل فئات الدخل الأدنى كلفة تصحيح السياسة النقدية التي استفادت منها فئات الدخل الأعلى.
يرفض المدير الإقليمي للشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق، وزير المال اللبناني السابق جهاد أزعور، التعليق على ما يحصل، وامتنع، في لقاء عقده أخيراً في بيروت، عن الإجابة على سؤال وجّه إليه عمّا إذا كان التقرير سينشر أم لا. مكتفياً بالقول إن الصندوق «متفّهم لمرحلة تشكيل الحكومة الجديدة، وهو يريد أن يمنح الحكومة العتيدة الفرصة والدعم». ولكن مصادر على صلة بالصندوق أوضحت أن التدخلات الجارية دفعت المجلس التنفيذي لتأخير الإعلان عن اختتام المشاورات مع لبنان من 11 أيار/ مايو إلى 22 حزيران/ يونيو. وفي الحصيلة، ظهر أن «ميزان القوى» داخل إدارة الصندوق لم يعد يميل إلى مسايرة «الحالة اللبنانية» كما هي. قد يكون ذلك (ربّما) بهدف تصعيد الضغوط السياسية والتأثير في القرارات الداخلية في هذه المرحلة، وفق ما يردّده البعض. ولكنه يهدف أيضاً إلى «النأي بالنفس» عن نتائج استمرار «اللعبة النقدية»، التي يلعبها مصرف لبنان منذ ربع قرن، والتي باتت ترتّب مخاطر جسيمة، برأي خبراء الصندوق، وتترك تأثيرات سلبية على الأسواق الخارجية، ولو أنها تأثيرات محدودة نظراً لهامشية الاقتصاد اللبناني وصغره قياساً إلى الاقتصاد العالمي.
وفق حسابات خبراء الصندوق، بات مجموع الدين الخارجي للبنان (بما فيه ودائع غير المقيمين) يفوق 200% من مجمل الناتج المحلي السنوي، أي أن الاقتصاد اللبناني بات مديوناً تجاه الخارج بنحو 110 مليارات دولار، ويُتوقع أن يصل إلى أقل بقليل من 150 مليار دولار في غضون السنوات الخمس المقبلة، أو ما نسبته 216% من مجمل الناتج المحلي في عام 2023. وبالاستناد إلى الحسابات «الحقيقية» لميزان المدفوعات اللبناني (حصيلة المبادلات والمعاملات الجارية بين المقيمين في لبنان وغير المقيمين)، فإن العجز المتراكم بين نهاية عام 2017 ونهاية أيار/ مايو الماضي وصل إلى مستوى قياسي تاريخي، يبلغ نحو 4.3 مليار دولار، وهذا يعني ببساطة أن هناك نزفاً كبيراً بالعملات الصعبة، في ظل فرص قليلة ومُكلفة جداً لتعويضها، لا سيّما مع ارتفاع أسعار الفائدة على الدولار في الأسواق العالمية والخريطة الجديدة لتدفقات الرساميل الأجنبية. يعتقد خبراء الصندوق أن هذا النزف المستمر منذ عام 2011 سيستمر على المدى المنظور، ولم تعد «الهندسات المالية» التي ينفّذها مصرف لبنان لدعم ميزان المدفوعات تجدي نفعاً، بل على العكس، باتت، برأيهم، تترك «تشوّهات في الأسواق» وأدّت إلى «خلق أموال احتياطية جديدة، وأضعفت الموازنة العمومية لمصرف لبنان، وخلقت مجموعة مختلفة من الأخطار على الاستقرار المالي من طريق تعريض البنوك لأخطار سيادية كبيرة وتفاوتات في آجال الاستحقاق»، وكشفت «مواطن الضعف في النظام المصرفي»... وبالتالي، يظن خبراء الصندوق أن الاقتصاد اللبناني سيواجه أزمة تمويله عاجلاً أم آجلاً، ووفق حساباتهم، يبلغ عجز الحساب الجاري (حصيلة العلاقات بين لبنان والخارج) أكثر من ربع الناتج المحلي في هذا العام، أي أن لبنان يحتاج إلى جذب تدفقات أجنبية بقيمة لا تقلّ عن 14 مليار دولار في هذا العام لتغطية حاجاته التمويلية، وهذه العملية ستكون صعبة ومكلفة جداً، لذلك يلمحون في تقريرهم إلى أن «سعر صرف الليرة لا يمكن أن يبقى ثابتاً لفترة طويلة»، ولا مفرّ من تصحيحه، ويوصون بالعودة إلى أدوات السياسة النقدية «التقليدية»، لا سيّما رفع أسعار الفوائد، كما يوصون بالتقشّف في الإنفاق العام لتخفيض التمويل المطلوب.
إلا أن حاكم مصرف لبنان سلامة مقتنع أن «لبنان يستطيع تمويل نفسه ولكن بكلفة أعلى». المسألة بهذه البساطة لديه، وكأن الكلفة لا تترتب على أحد ويمكن تسديدها دائماً مهما ارتفعت وتعاظمت!
في لقاء مع وفد من نقابة الصحافة، ردّ سلامة على صندوق النقد الدولي من دون أن يسمّيه صراحة، قال إن «المقاربة التي يقوم بها مصرف لبنان للمحافظة على الاستقرار النقدي يجب أخذها في الاعتبار. فكل من يتكلّم عن تصحيح يجب أن يعرف أنني مهما قمت بتصحيحات في موضوع النقد، فإذا لم نستطع استقطاب دولارات إلى لبنان لن نستطيع الوصول إلى الغاية التي نرتجيها، أي أننا سنصل إلى وضع لن نغيّر شيئاً في كلفة الإنتاج في البلد، لأنها مدولرة، وسترتفع الفوائد لأن الأخطار زادت، ويكون الوضع الاقتصادي ازداد سوءاً ولم نكتسب شيئاً. فالكل يحسبون معاشاتهم ومصروفهم وتكلفتهم بالدولار، والتسعير للبيع بالدولار. وأمام هذا المشهد، هناك مطلب وطني ورسمي، يؤيّده مصرف لبنان، للمحافظة على استقرار سعر صرف الليرة، لأن معظم اللبنانيين مداخيلهم بالليرة اللبنانية، وأي تغيّر في سعر صرف الليرة أو إضعافها يفقر هؤلاء المواطنين، ولا تتحقّق مكاسب اقتصادية في المقابل».
هذا التباين بين خبراء الصندوق ومصرف لبنان، وضع الناس بين خطابين سيئين: خطاب مصرف لبنان الذي يرفض أي تغيير في السياسة النقدية ولا يرى ضيراً في تدفيع فئات الدخل الأدنى المزيد من الأكلاف غير المُبرّرة. والثاني، خطاب صندوق النقد، الذي يريد التخلّص من كلفة التثبيت النقدي عبر تحميلها لفئات الدخل الأدنى، وهم الذين يتقاضون أجورهم بالليرة ويدّخرون بها تعويضاتهم ومعاشاتهم التقاعدية، ويوصي بـ«التقشّف» للمحافظة على سعر صرف ثابت لفترة أطول، تتحمّل كلفته فئات الدخل الأدنى أيضاً، عبر زيادة الضريبة على القيمة المُضافة إلى 15%، وإعادة الضرائب على المحروقات إلى مستوياتها قبل عام 2012، وإلغاء دعم أسعار الكهرباء، وتخفيض فاتورة الأجور ونظام التقاعد ونقل المزيد من البنية التحتية والخدمات العامة إلى القطاع الخاص.