حاول مصرف لبنان دعم ميزان المدفوعات اللبناني، عبر الهندسات المالية ومنح العوائد السخية للمصارف وكبار المودعين لنقل بعض ودائعهم من الخارج إلى لبنان، وقد أدت هذه المحاولات إلى حصول فائض «مصطنع» في عام 2016 فقط، ثم عاد الميزان لتسجيل العجوزات، وهو نمط مستمرّ منذ عام 2011. الآن، انتقل مصرف لبنان إلى محاولة تجميل حسابات الميزان لإخفاء النتائج الفعلية لهذا الدعم المُكلف جداً، وبالتالي انتقل من إعلان فائض «مصطنع» إلى فائض «مزوّر».ما ميزان المدفوعات؟ هو «بيان إحصائي يلخّص نتيجة المبادلات والمعاملات التي تنشأ بين المقيمين في البلد والمقيمين في الخارج خلال فترة معيّنة». هذا هو التعريف المُعتمد لدى كل المنظمات التي تُعنى بمثل هذه الإحصاءات، وفي مقدمها صندوق النقد الدولي. بعبارات أبسط، يعبّر ميزان المدفوعات عن صافي الأموال الواردة إلى البلد والصادرة عنه. وبالتالي، هو لا يتضمّن أي مبادلات ومعاملات تُجرى بين مقيمين في البلد، حتى ولو جرت بعملة أجنبية، كذلك لا يحتسب أي عمليات بين مقيمين وغير مقيمين ما لم يترتب عليها مبادلات ومعاملات تحقّقت بالفعل، لا على الورق أو الفرضيات أو الأوهام.
أنقر الصورة للتكبير

إذاً، لا يتعلّق ميزان المدفوعات بعملة التداول، أيّاً كان نوعه، بل يتعلّق فقط بالتداول بين مقيمين وغير مقيمين، بأي عملة كان. وهذه هي المنهجية المُتبعة في كل مكان في العالم، ولو اختلفت الحسابات وجودتها ودقتها بين بلد وآخر.
في لبنان، بسبب نقص الإحصاءات الفادح، يجري احتساب ميزان المدفوعات عبر رصد التغيّر في صافي الأصول الأجنبية لدى مصرف لبنان والمصارف التجارية خلال فترة مُحدَّدة، على أساس شهري، وعلى أساس تراكمي بالمقارنة مع الصافي المُسجّل في نهاية السنة السابقة. وتعبّر هذه المنهجية بقدر ما عن حقيقة وضع ميزان المدفوعات، ولو بصورة ناقصة.
إذاً، ليس هناك التباس في التعريف، كذلك فإن المنهجية المُعتمدة في لبنان سارية منذ سنوات بعيدة، وهي لم تتعدّل إلا لماماً مع توافر المزيد من الإحصاءات نتيجة فرض المعايير الدولية على البنك المركزي والمصارف، ونتيجة الضغوط الخارجية لتحسين حسابات ميزان المدفوعات، ومنه ميزان الحساب الجاري وميزان الحساب التجاري. إلا أن مصرف لبنان قرّر فجأة إدخال تعديل جوهري على هذه المنهجية في أعقاب أزمة احتجاز رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري وإعلان استقالته في السعودية. فقد أعلن، من دون أي توضيح أو تبرير أو تفسير، أن «صافي الموجودات الخارجية لمصرف لبنان، اعتباراً من تشرين الثاني 2017، يشمل سندات دين الجمهورية اللبنانية المُصدّرة بعملات أجنبية»، أي إن احتساب ميزان المدفوعات بات يتضمّن عمليات أجريت بين مقيمين (هما وزارة المال ومصرف لبنان)، ولم يترتب عليها أي أموال واردة من الخارج، لكونها عمليات دفترية يقوم مصرف لبنان بموجبها باستبدال سندات خزينة يحملها بالليرة بسندات يوروبوندز (بالدولار)، بغرض بيعها والحصول على العملات الأجنبية، سواء من السوق المحلية أو من السوق الخارجية.
يقول الأمين العام لجمعية المصارف مكرم صادر (حرفياً) في مقاله الأخير (في النشرة الشهرية الصادرة عن الجمعية): «طبعاً، إن احتساب مصرف لبنان محفظته من سندات اليوروبوندز اللبنانية ضمن رصيد ميزان المدفوعات لا يصبح حقيقياً إلّا إذا استطاع بيع ما ينوي احتسابه إلى أشخاص (طبيعيّين أو مؤسساتيّين) غير مقيمين، ما يُدخِل فعلياً سيولة بالعملات الأجنبية إلى موجوداته الخارجية». وهذا الموقف أعلنه كل اقتصادي أو خبير مالي أو مصرفي أدلى بدلوه حول صحّة أرقام ميزان المدفوعات المُعلَنة في الأشهر الأخيرة، ما يعني أن ليس هناك أي موقف «تقني» يدعم ما قام به مصرف لبنان، والكل تقريباً، ما عدا حاكم مصرف لبنان، يقولون إن هذا التعديل في احتساب ميزان المدفوعات يتعارض مع المبادئ المحاسبية المُعتمدة والمنهجيات الشائعة، وبالتالي يعطّل أي قيمة مُمكنة من تحليل ميزان المدفوعات وفهم المخاطر وتقدير الحاجات التمويلية وتبرير الأكلاف المُسدّدة لتوفيرها.

1.8 مليار دولار

الودائع في المصارف المراسلة تُظهر بيانات مصرف لبنان أن مجمل المطلوبات من القطاع المالي غير المقيم بلغ 10.3 مليارات دولار في أيار/ مايو الماضي. في المقابل، بلغ مجمل المطلوبات إلى القطاع المالي غير المقيم نحو 8.5 مليارات دولار، ما يعني أن المصارف التجارية المحلية لم تعد تحتفظ لدى المصارف المراسلة في الخارج إلا بـ 1.8 مليار دولار


في الواقع، عمد مصرف لبنان إلى احتساب سندات اليوروبوندز قبل بيعها، وما باعه منها حتى الآن كان بمعظمه من نصيب المقيمين (المصارف المحلية تحديداً). وهناك ما يكفي من الأدلة على أن ميزان المدفوعات «الحقيقي» يسجّل عجوزات شهرية عالية، وليس فوائض، كما أعلن حاكم مصرف لبنان.
في اللقاء ما قبل الأخير بين سلامة وجمعية المصارف، أعلن أن ميزان مدفوعات حقّق فائضاً تراكمياً في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام بقيمة 497 مليون دولار. ورأى أن هذا دليل على صحّة سياسته وجدوى عمليّاته في المحافظة على تثبيت سعر الصرف وتمويل الدولة والاستهلاك. إلا أن احتساب ميزان المدفوعات وفق المنهجية المُعتمدة قبل تعديلها، يبيّن أن صافي الأصول الأجنبية لدى مصرف لبنان والمصارف التجارية سجّل عجزاً بقيمة تصل إلى 4.3 مليارات دولار حتى أيار/ مايو الماضي، وهو مستوى عجز لم يشهده لبنان حتى في سنوات الحرب الأهلية.
قامت «الأخبار»، بمعاونة عدد من الاقتصاديين والمعنيين في مجالات إنتاج الحسابات المالية، بإعادة حساب ميزان المدفوعات «الحقيقي» (الجدول)، بالاستناد إلى بيانات مصرف لبنان المنشورة على موقعه على الإنترنت. وتبيّن أن صافي الأصول الأجنبية في عهدة مصرف لبنان لم يتجاوز في نهاية أيار/ مايو الماضي 34.3 مليار دولار في مقابل 35.5 مليار دولار في نهاية عام 2017، أي إن العجز المتراكم بلغ 1.2 مليار دولار في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام. فيما سجَّل صافي الأصول الأجنبية في عهدة المصارف التجارية عجزاً بقيمة 22.1 مليار دولار مقارنةً بـ 19 مليار دولار في نهاية العام الماضي، أي إن هذا العجز المُتراكم ازداد بقيمة 3.1 مليارات دولار. وبما أن هذين المتغيّرين (العجزين) في صافي الأصول الأجنبية في عهدة كل القطاع المالي (مصرف لبنان والمصارف) يعبّران عن وضعية ميزان المدفوعات، فهذا يعني ــ من دون أدنى شك ــ أن العجز الحقيقي المُتراكم بلغ 4.3 مليارات دولار حتى أيار/ مايو، وهذا مؤشر خطير يجدر التعامل معه من دون مواربة.
على مدى ربع القرن الماضي، ترسّخ نموذج اقتصادي يرتكز في تمويله على التدفقات الخارجية، ولكن بدلاً من تطوير القاعدة الإنتاجية ودعم الاقتصاد الحقيقي لجذب الاستثمارات الأجنبية وزيادة صادرات السلع والخدمات، وبالتالي الحصول على العملات الصعبة اللازمة لتمويل المشتريات من الخارج وضمان استقرار سعر الصرف. جرى اللجوء إلى بدائل قصيرة الأجل ومُكلفة جدّاً، تمثّلت بتشجيع الهجرة للمحافظة على تدفق تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، وإعطاء كبار المودعين والمصارف أسعار فائدة سخية جدّاً لزيادة الودائع، وتشجيع الاستدانة لتمويل الاستهلاك العام (الحكومة) والخاص (الأسر)، وتحفيز المضاربات على أسعار الأراضي عبر دعم الأسعار وإشاعة أسطورة «أن سعر العقار يتّجه صعوداً فقط»، وذلك بهدف جذب الرساميل المُضاربة من غير المقيمين (ولا سيما من الخليج). انتهى الأمر إلى ما يمكن اعتباره أطول فقّاعة في تاريخ لبنان، وهي على وشك الانفجار، ولعل أبلغ تعبير عنها أنّ عجز ميزان لبنان الجاري (مجمل علاقات لبنان مع الخارج) يمثل نحو ربع الناتج المحلي، أي إن المقيمين يترتب عليهم تسديد كلفة جذب ما بين 13 دولار و14 مليار دولار سنوياً من الخارج، وهذا ينعكس بوضوح زيادة مقلقة جدّاً في مجموع الدين الخارجي المترتب على المقيمين في لبنان (بما فيه ودائع غير المقيمين)، الذي بلغ، وفق حسابات صندوق النقد الدولي، نحو 198% من مجمل الناتج المحلي (أكثر من 102 مليار دولار) في نهاية عام 2017، ويتوقّع أن يبلغ 216% في عام 2023، أي أكثر من 150 مليار دولار.