هناك من يطرح على السوريين النموذج الليبرالي لإعادة الإعمار، الذي جسّدته على نحو خاص في التجربة اللبنانية شركة «سوليدير» العقارية، مبررين ذلك بالدمار الهائل الذي لحق بقطاع المساكن، والذي يشكل إلى جانب الأضرار اللاحقة بقطاعي التعليم والصحة الجزء الأكبر من خسائر الحرب... فيما يطرح آخرون النموذج المركزي أو شبه المركزي للإعمار، تبعاً لامتلاك الدولة السورية قطاعاً عاماً صلباً، تمكن من الصمود والحفاظ على فعالية مقبولة أثناء الحرب، لكن ذلك يصطدم بضخامة الموارد المالية والبشرية والمادية المطلوب توفيرها لإدارة عملية إعمار بهذه الضخامة، وبضرورة إعادة بناء المؤسسات العامة على نحو تتخلص معه من الشوائب الإدارية التي عانتها قبل الحرب وتفاقمت أثناءها. لعل النموذج الأفضل بالاستفادة من التجربة اللبنانية أيضاً هو النموذج التضامني التشاركي، الذي برز بعد حرب تموز 2006 في لبنان وسجل نجاحاً منقطع النظير. نجحت مؤسسة «وعد»، التي تعد ركيزة هذا النموذج، في إعادة إعمار ما هدمه العدوان عمرانياً ومجتمعياً واقتصادياً، بأقل التكاليف وأفضل السبل، وتمكنت من تعبئة الجهود والإمكانات المحلية المادية والبشرية إلى أقصى حد ممكن، وذلك مقارنة بإخفاق شركة «سوليدير» في تحقيق الأغراض الرئيسة لوجودها، على الرغم من ضخامة التمويل الخارجي الذي حصلت عليه.

برزت في التجربة اللبنانية 4 نماذج لإعادة الإعمار، هي النموذج المركزي في الستينيات، والنموذج شبه المركزي أثناء الحرب الأهلية، والنموذج الليبرالي ما بعدها، والنموذج التضامني التشاركي لإعادة إعمار ما هدمته حرب تموز العدوانية عام 2006.

النموذج المركزي
في هذا النموذج، تؤدي الدولة دوراً محورياً في الإعمار، فتشغل البيروقراطية الحكومية الإدارية والمهنية موقعاً أساسياً في وضع الأهداف، وصوغ الهوية المعمارية، وتصميم أطر التمويل والتنفيذ. وغالباً ما يكون القطاع العام هو المخطط والممول والمنفذ. هذا النموذج الذي استلهمه لبنان قبل نصف قرن تقريباً، هو اجتماعي النزعة، وتزامن تطبيقه في ذلك الوقت مع تقدم دولة الرعاية الشاملة، وزيادة الاستثمارات العامة، ومحاولة تطوير البنية المؤسساتية للدولة.
وعلى الرغم من القيم الوطنية الجامعة التي حملتها السياسات الإعمارية ذات التوجه المركزي، وخصوصاً في محاولتها تطويع المجال المديني لمصلحة مبادئ اجتماعية اقتصادية وطنية أعلى، فإن محاولة إخضاع الإنماء لمفاهيم تكنوقراطية مشوبة بالبيروقراطية، قللت من فعالية هذا التوجه وسهّلت الانقلاب اللاحق عليه، وساهم في ذلك عدم تمثيل القوى الاجتماعية والسلطات المحلية على نحو كاف في رسم الصورة المتوخاة للمدينة. وقد عزا الكتاب الأبيض، الصادر سنة 1973 عن المديرية العامة للتنظيم المدني، فشل سياسة تخطيط بيروت وضواحيها إلى المقاومة الخفية التي أبداها طيف واسع من المتضررين، بدءاً بكبار المضاربين وأصحاب النفوذ، وانتهاءً بالمهمشين القاطنين في أحزمة البؤس وبيوت الصفيح، وتوقع هذا الكتاب أن يزداد الوضع سوءاً حتى عام 2000 ما لم تعتمد حلول تنظيمية جدية (وهذا ما لم يحصل).
بُدِّد الرأسمال الاجتماعي عبر إحلال الرأسمال المادي محلّه ووُضع الإلزام (القانوني والإداري) في مكان أنماط التعاون الاجتماعي


كان من أسباب إخفاق محاولات التطوير المديني لبيروت ربط وظيفتها الاقتصادية باقتصادات النفط، المعرضة لتقلبات وفورات من شأنها أن تقوض أسس التخطيط السليم. فمن الصعب التحكم بنمو مدينة تتلقى تدفقات مالية غير منتظمة من البترودولار، وتشهد فقاعات عقارية تارة وفترات ركود طويلة تارة أخرى، تأثراً باتجاهات فوائض النفط وسلوك الدول والحكومات التي تتولى إنفاقها. مع ذلك، يمكن منح الرؤية الإعمارية ذات الطابع المركزي التي اعتمدت في ذلك العهد تقديراً إيجابياً كونها تبنت فكرة التخطيط البعيد الأمد. وربطت الرؤية الإعمارية بخطة شاملة للإنماء، والتي وضعت استناداً إلى ما انتهت إليه بعثة إرفد الفرنسية، وأنشئت بموجبها مراكز تنموية قطبية من فئات أولى وثانية وثالثة تغطي كامل الأراضي اللبنانية، بهدف شد أواصر النسيج الاجتماعي، وتخفيف حدة التفاوت بين السمات العمرانية والمدينية المعبّرة عن تمايزات اجتماعية وطبقية.
لكن هذه الرؤية المركزية التي يطغى فيها حضور الدولة في كل المراحل؛ من التخطيط إلى التنفيذ، لم تول اهتماماً موازياً للجوانب الرمزية والجمالية، ولم تحقق التكامل العمراني بين المناطق، فبقيت الاستفادة من خصائص الموقع محصورة ببعض الأماكن التي حظيت باهتمام المستثمرين والوافدين، في حين كان ممكناً تعميم المزايا التفاضلية للبلد من خلال تقسيمه الى محاور متجانسة تنموياً من جهة، ومتكاملة تنظيمياً من جهة ثانية، يضاف الى ذلك ضعف مشاركة المجتمع المحلي في وضع التوجهات العامة للتنظيم والتخطيط، ما يعطي العملية هيكلية تراتبية تبدأ من قمة الهرم الإداري العام وتنتهي بأسفل سلّم التنفيذ، مع غياب شبه تام للسكان المعنيين بالعملية.

النموذج شبه المركزي
تسجل الدولة، وفق هذا النموذج، حضوراً قوياً في مجالات التخطيط وإعادة الإعمار، لكن في سياق أكثر مرونة من النموذج المركزي، ومن خلال أطر ومؤسسات تتمتع باستقلال مالي وإداري نسبي، ويترافق دورها مع حضور أقوى للقطاعين المدني والخاص. هنا يكون دور الحكومة أقوى في مراحل التخطيط، مقارنة بالتنفيذ والتمويل، وتتخذ سياسات الإعمار طابعاً وظيفياً ـــ مناطقياً، واضح المعالم ومحدد الجوانب والتوقيت (مثل تنظيم منطقة لهدف محدد)، ويتخذ التخطيط المديني مسارين متزامنين من الأعلى الى الأسفل، ومن الأسفل الى الأعلى.
في تجربة إعادة الإعمار التي أعقبت انتهاء موجة العنف الأهلي الأولى عام 1977، اتفق على إلغاء وزارة التصميم بدعوى إخفاقها طوال عشرين عاماً في وضع المخططات الإنمائية موضع التنفيذ، وأنشئ بدلاً منها مجلس الإنماء والإعمار، الذي أوكلت إليه أعمال إعادة البناء بعد الحرب، مع الحرص على إبقاء أصحاب الحقوق في أماكنهم. وفي سياق هذا التوجه الإعماري، الذي برز في أعقاب ما يعرف بحرب السنتين (1975 ـــ 1977)، واعتمد بصورة رئيسة على المساعدات العربية، وُضع مشروع إعادة بناء وسط العاصمة على أسس مشرقية، تبقيه ساحة اندماج وطني، فخصصت مساحات للأسواق الشعبية إلى جانب العمارات العالية والمقارّ الحكومية ومكاتب الشركات الكبيرة، ومع أن الدولة أبقت لنفسها موقعاً رئيساً في هذه العملية، فإن فكرة اشراك القطاع الخاص في التمويل بدأت تظهر منذ ذلك الوقت، على شكل شركات عقارية مختلطة تشمل أصحاب الحقوق والدولة.
ويعد المشروع الأول لإعادة اعمار وسط العاصمة، والذي لم ينفذ بسبب استئناف القتال، استمراراً للمرحلة الشهابية، حيث القطاع العام هو المحرك والموجه، وعلى عاتقه ألقيت مهمات وضع أهداف التخطيط، وتمثيل مصالح الفئات المستهدفة وأصحاب الحقوق، وتنسيق العلاقة مع الفئات الأخرى المعنية والمؤثرة مثل القطاع الخاص، والسلطات المحلية والبلديات، الخ...
المثال الأحدث والأبرز للنموذج شبه المركزي، هو المؤسسة العامة لترتيب منطقة الضاحية الجنوبية الغربية "اليسار" (إطار 1)، التي أنشئت عام 1996، إلا أن مشروعها لم يُنفذ حتى الآن.
تظهر مراجعة أهداف المشروع بعض خصائص النموذج الإعماري شبه المركزي، الذي يضع الأهداف الاجتماعية في كفة متوازنة مع الأبعاد العقارية والاقتصادية الأخرى للمشروع. ويعطى الناس دوراً أكبر في إعمار أو إعادة إعمار مجتمعهم، مقارنة بالنموذج المركزي. لكن تلك الأهداف تتخذ طابعاً موضعياً مؤقتاً ولا تندرج ضمن سياق تخطيطي طويل الأمد أو ضمن سياسات إنمائية شاملة.

النموذج النيوليبرالي
يتبنى هذا النموذج المحاججة الآتية: إن تمكين بيروت من منافسة المدن الإقليمية الأخرى يرتبط بهدف اقتصادي عام هو جذب التدفقات المالية على نطاق واسع لتحقيق نمو سريع، وهذا لا يتم إلا من خلال إطلاق العنان لقوى السوق، وإعطاء القطاع الخاص أفضلية على غيره للتحكم بمفاصل السياسات الإعمارية، بما في ذلك تحديد طرق إعادة البناء والنسق المعماري. لكن هذه الرؤية الضيقة للنمو، أشعلت شرارة المضاربة العقارية في بيروت، وهددت من ثمّ دور المدينة على الصعيد الاقتصادي الوطني، وصولاً إلى التفريط بتجانسها، وإحباط آمال فئات اجتماعية واسعة في الإقامة فيها.
يقصي هذا النموذج أيضاً الدولة عن أي دور تنفيذي في إعادة الإعمار، كما يهمش حضورها في مراحل التخطيط ووضع الأهداف، فالقائم على هذه العملية كما يشير الباحث الفرنسي إريك فيرداي هو في كثير من الأحيان "استشاري خاص، يعتمد في تقويم المشروع نهجاً مالياً محدداً، في حين يضع التصورات الاجتماعية والقضايا المدينية المركزية والأماكن العامة في مرتبة أدنى". ويتخذ النسق المعماري النيوليبرالي طابعاً مشهدياً مغرقاً في الفخامة، مع مبالغات تخطيطية وعمرانية غرضها كسب الاهتمام وإثارة الدهشة أكثر من كونها وسيلة تحقيق أهداف محددة.
ارتبط النموذج النيوليبرالي بصعود الحريرية الاقتصادية في لبنان، التي ركزت على ثلاثة مجالات: القطاع المالي، القطاع العقاري والتدفقات المالية من الخارج، مع محاولة جعل لبنان مركزاً للتجارة الإقليمية. وعلى عكس "الشهابية"، التي استلهمت صعود الرأسمالية الاجتماعية وتلمست عن قرب العلاقة التي لا يمكن التنكر لها بين الاستقرارين الاجتماعي والسياسي، اتبعت الحريرية مساراً يعطي الأولوية للرأسمال الوافد على الرأسمال المقيم، وللأموال الساخنة المضاربة على الاستثمارات المنتجة طويلة الأمد، وللقطاع الخاص المعولم على القطاع العام، وللسياسات النقدية التي ترعى صعود رأس المال المالي، على السياسات الاقتصادية والمالية التي شأنها تمتين البنية الإنتاجية.
وتعد شركة إعمار وسط بيروت "سوليدير" (إطار 2)، العلامة البارزة في هذه الرؤية للاقتصاد اللبناني، لكنها لم تكن الأولى من نوعها. فقد سبقتها إرهاصات في عهد الرئيس الأسبق أمين الجميل. ففي عام 1983 بدأ العمل على تحديث مشروع إعمار وسط بيروت المعلق منذ عام 1977 بسبب الحرب. وحسب فيرداي، "أجريت دراسات التحديث بسرية من قبل شركة أوجيه لبنان، التي حددت مضمون المشروع واتجاهاته العميقة، واعتمد على هذه الدراسات لاحقاً في وضع مشروع 1991". ومنذ ذلك التاريخ، رسم أفق جديد لعمليات إعادة الإعمار أداته التنفيذية شركات عقارية تحوّل الحقوق المادية والعينية إلى حقوق مالية (أسهم) يتشارك فيها أصحاب الحقوق الأصليون مع المكتتبين في رأس المال، ويتم اللجوء إلى السوق لتأمين التمويل الرئيسي، دون أن يكون للدولة أي دور تقريباً.

النموذج الإعماري التضامني التشاركي
يؤدي المجتمع المعني بعملية إعادة الإعمار، وفق هذا النموذج، دوراً محورياً في رسم الأطر العامة لإعادة الإعمار، بحيث تتحقق المصلحة العامة من خلال مراعاة أوضاعهم ومصالحهم. على أن ذلك يتطلب تنسيقاً نشطاً وتوزيعاً دقيقاً للأدوار بين الفاعلين الأساسيين المعنيين بالعملية وهم: الدولة والقطاع العام، المخططون والمشرفون، أصحاب الحقوق، السلطات المحلية، الهيئات الأهلية والقطاع الخاص. وهذا التنسيق يمكن أن تقوم به منظمات مدنية أو سياسية لا تبغي الربح.
يقدم مشروع "وعد" لإعادة إعمار الضاحية الجنوبية (إطار 3)، صورة دقيقة وناجحة لهذا النموذج التضامني، وهو على حد وصف الباحث الأميركي سكوت بولينز، خيار بديل لإعادة إعمار متجذر في الأعماق الاجتماعية والإنسانية في حياة المدينة التي يجري التخطيط لها"، إذ انه يتسم بمزايا ايجابية عدة؛ منها:
الديناميكية والمرونة الناشئتان عن عمل منظمة غير حكومية تعمل بالاستقلال عن الدولة (وهذا يأتي في إطار تعريف هذه الأخيرة للمصلحة العامة المتمثلة في إعادة المهجرين بسبب العدوان إلى بيوتهم بأسرع وقت ممكن).
الترابط العميق بين القائمين على المشروع والسكان إلى حد التماهي.
المحافظة على النسيج الاجتماعي والبيئة الحضرية كما هي.
عزل عملية الإعمار عن المضاربات وجني الأرباح التي يمكن أن تلحق تشويهاً بأهداف المشروع وسياساته.
وحسب بولينز، فإن الدور المعطى لجمهور أصحاب الحقوق في التخطيط والتنفيذ كان كبيراً جداً ومبالغاً فيه، فبرأيه يجب أن تكون مشاركة الناس معتدلة لتحقيق أهداف التنمية في زمن مقبول. ومع ذلك، لم تعطل المشاركة الكثيفة للناس المشروع، ربما أبطاته قليلاً، لكنه حافظ على مساره المرسوم، محققاً أهدافه في غضون مدة زمنية مقبولة لا تهدد عقد المجتمع بالانفراط.

تقويم النماذج الأربعة
حقق النموذج التضامني/ التشاركي أهدافه كاملة تقريباً، وعلى رأس ذلك إعادة النسيج الاجتماعي إلى ما كان عليه قبل الحرب، في حين نجح النموذج النيوليبرالي في الوصول الى بعض أهدافه العمرانية المباشرة، لكنه أخفق في بلوغ غاياته الاقتصادية والمالية، تلك التي احتلت الحيز الأكبر من اهتمام المخططين على حساب الجانب الاجتماعي. وبالمقابل، حالت العقبات السياسية والمالية ورفض إحياء النموذج المركزي، دون انطلاق المؤسسة العامة لترتيب الضاحية الجنوبية الغربية "أليسار".
لا يمكن فصل مشروع إعادة إعمار الضاحية الجنوبية عن المنظور السياسي والاقتصادي الأوسع الذي يعبر عنه، فهو يرتبط بمشروع المقاومة ويحاول تمثيل مصالح مجتمعها، كما يتصل أيضاً برؤية اقتصادية منصفة اجتماعياً لطالما طبعت أداء حزب الله الداخلي. ومع أن ذلك المنظور لم يحقق حتى الآن غاياته، فإن مشروع "وعد" هو بارقة أمل في إحداث تقدم ما في هذا الاتجاه، وهو مثال بارز على قدرة النموذج الاجتماعي، التضامني/ التشاركي على التصرف بواقعية، وتسجيل نجاحات تفوق بكثير تلك التي يمكن للنموذج الآخر تحقيقها.

يقصي النموذج الليبرالي الدولة عن أي دور تنفيذي في إعادة الإعمار، كما يهمّش حضورها في مراحل التخطيط ووضع الأهداف


في أواسط الثمانينيات، نُفض الغبار عالمياً عن أطروحة ما يسمى "السلام الليبرالي" (رونالد بارس وآخرون)، والتي تفترض أن الليبرالية هي استراتيجية ملائمة لإعادة بناء المجتمعات الممزقة بعد الحروب. لكن إعادة الإعمار بعد حرب تموز قدمت مثالًا على وجود بدائل لهذه الأطروحة على ما يقر به باحثون غربيون. وقد لاحظ "روجر جنتي" أن عملية الإعمار في لبنان عام 2006 حصلت دون رعاية دولية واسعة النطاق وبلا إجراءات سياسية واجتماعية مفروضة مسبقاً، وهذا ما ينطوي بحسبه على تهديد ما لمقاربة "السلام الليبرالي" في مجال الإعمار.
كانت سوليدير بدورها جزءاً من رؤية سياسية/ اقتصادية، لكنها لم تتّسم بالواقعية باستنادها إلى رهانات لم تتحقق: "التسوية الإقليمية"، وعودة لبنان إلى دوره الإقليمي السابق، والثقة بقدرة الدولة على تعبئة ما يكفي من الموارد الخارجية. لكن الرهانات لم تتحقق، وانشغل واضعو السياسات بلملمة الآثار السلبية لفشل المشروع (الدين العام، تباطؤ النمو، قلة الاستثمارات العامة...)، فيما غدت "سوليدير" في خضم ذلك جزيرة اقتصادية منفصلة عن محيطها.
يُسجل لمشروع "وعد" نجاحه في تعبئة رأسمال اجتماعي من شأنه المساعدة على تخطي الصعوبات، والصعود على سلّم متين من التضامن الشامل. الرأسمال الاجتماعي يعني وجود مخزون كاف من الحوافز التي تجعل من كل وحدة اجتماعية، فرداً أو مؤسسةً، شريكاً محتملاً في إتمام العملية وتطويرها وتحمّل أعبائها. هذا الدخول الجماهيري إلى نطاق العمل لا يقلّل التكاليف فحسب، بل يخلق قيم إعادة إعمار تسمح بالتغلب على الممانعة التقليدية التي تواجه برامج التطوير والتنمية، أو التي تعرقل إمكانية قيام تعاون بدرجة كافية. في التسعينيات، بُدِّد الرأسمال الاجتماعي عبر إحلال الرأسمال المادي محله، ووُضع الإلزام (القانوني والإداري) في مكان أنماط التعاون الاجتماعي التلقائي، وهذا ما أدى، من بين أسباب أخرى معروفة، إلى اعتماد أطر تقوم على الإكراه والقهر (الشركة العقارية مثلاً)، بدعوى أنها الشكل الوحيد المتاح لتنظيم المجال المشترك. بمعنى آخر، جرى إحلال القوانين والهياكل المؤسسية الإجبارية محل القيم التي تسمح بقيام تعاون طوعي يستند إلى الثقة ولا يتطلب تدخلاً شاملاً من قبل طرف ثالث هو الدولة.

* أستاذ جامعي ـــ رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق



1 - ألِيسار
أنشئت المؤسسة العامة لترتيب منطقة الضاحية الجنوبية الغربية "أليسار" عام 1996، بموجب المرسوم 9043 تاريخ 30/8/1996 (استناداً إلى المادة 22 من قانون التنظيم المدني الصادر بالمرسوم الاشتراعي الرقم 69/1983)، وذلك بعد جدل طويل بشأن الخيارات الإعمارية. كان رأي رئيس الحكومة آنذاك هو تكرار تجربة "سوليدير"، أي إنشاء شركة عقارية تتولى "تطوير" المنطقة، وتطوير المداخل الجنوبية لبيروت وإعادة إسكان قاطنيها. رفض أبناء المنطقة وممثلوهم السياسيون (حزب الله وحركة أمل) بحزم هذا الخيار الذي يهدد بتهجير جماعي للسكان، واستقر الرأي في نهاية المطاف وبعد أخذ ورد شديدين على إنشاء مؤسسة عامة.
تمتد المنطقة المشمولة بمؤسسة أليسار على طول المداخل الجنوبية الثلاثة لبيروت، وتقارب مساحتها 560 هكتاراً، يضاف إليها 25 هكتاراً من المساحات المردومة على الشاطئ قرب المدرج الغربي لمطار بيروت الدولي. وقدر عدد السكان وقت إقرار المشروع بـ 111020 نسمة موزعين على مناطق: بئر حسن، الأوزاعي، الجناح والمرامل.
المهمة الأساسية للمؤسسة كانت ترتيب المنطقة وتطويرها، وإنهاء المخالفات، وحل مشكلة المهجرين الذين قصدوا هذه المنطقة، بحثاً عن فرص عمل أو بسبب الأحداث الأمنية. وقد أقام هؤلاء بصورة غير نظامية وشغلوا أملاكاً عامة في الغالب، وذلك بدءاً من خمسينيات القرن الماضي، بتشجيع أحياناً من بعض الزعامات السياسية في خضم تنافسها مع زعامات أخرى.
وكان من مبادئ للمشروع، إعادة إسكان المقيمين بصورة غير نظامية في المنطقة نفسها بعد تسوية أوضاعهم وتشريع إقامتهم، وفق مخطط توجيهي جديد يعيد توزيع استخدامات الأراضي على وظائف متعددة (سكن، مجمعات ذوي الدخل المحدود، صناعات خفيفة، مواصلات، خدمات، سياحة، مرافق عامة، الواجهة البحرية....)، ويأخذ بالاعتبار الموقع الحيوي للمنطقة ومواردها الكامنة. وستبدو "أليسار" بحلتها الجديدة (لو نفذ المشروع) موزعة على 17 منطقة تختلف في ما بينها بنوع استعمال الأراضي ومعدلات الاستثمار السطحي، لتصير، باستثناء مجمعات ذوي الدخل المحدود، شبيهة إلى حد كبير بمناطق بيروت الأخرى.


2 - سوليدير
تعد الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت «سوليدير» نقطة تحول في التخطيط المديني في لبنان، وشاهداً فاقعاً على نموذج الإعمار النيوليبرالي، وهو ما يبدو في الطريقة التي أقر بها المشروع مع غياب الحد الأدنى من التوافق الاجتماعي والوطني بشأنه، والمخالفات التي رافقته والمبالغات التي أحاطت به، والخلط غير النزيه بين المصلحتين العامة والخاصة، فضلاً عن المفارقة المتمثلة في إعطاء القطاع الخاص الحق، ودون رقابة تقريباً، بالاستحواذ على مساحة واسعة داخل العاصمة، ووضع اليد على نقطة ذات أهمية استثنائية على طول الشاطئ اللبناني، بل على الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.
ركز المشروع على النواحي الجمالية والتجارية أكثر من الجوانب الاقتصادية، ودون أي اهتمام يذكر بالشأن الاجتماعي. ولم يضع المخططون في حسبانهم استعادة شيء من تراث المدينة ونسيجها المديني السابق، ولو على نحو رمزي هدفه الإبقاء على الملامح العامة لهوية المنطقة التاريخية.
لم ينجح المشروع، كما وعد القائمون عليه، في جعل الوسط التجاري قلباً نابضاً لاقتصاد وطني تقوده عاصمة تتدفق إليها رؤوس الأموال دون توقف. وهذا الإخفاق له دلالة كبيرة، كونه الذريعة التي اعتمد عليها من أجل تبرير ما حفل به المشروع من تمييز وانحياز. فالأثرياء وكبار المتمولين والشركات الكبرى والمطورون/ المضاربون العقاريون، كانوا هم الشرائح المقصودة بالمشروع، في حين أعطي أصحاب الحقوق أولوية متدنية، وهذا قبل أن تعمل التخمينات المجحفة والمضاربات المدبرة على طرد معظمهم لاحقاً إلى خارج المشروع، بل جرى ولأسباب نفعية تفضيل المهجرين والساكنين غير النظاميين عليهم.
أنشئت الشركة في 7 كانون الأول 1991 بموجب القانون 117 الذي عدّل الفقرة (6) من المادة (5) من المرسوم الاشتراعي 5/1977 وذلك بهدف السماح للشركات العقارية بتنفيذ أي مشروع يكلفها به مجلس الوزراء في مناطق الوسط، وكان قد صدر قبل ذلك المرسوم الاشتراعي الرقم 69 بتاريخ 9 أيلول 1983 (في عهد الرئيس أمين الجميل) والذي عدل قانون التنظيم المدني ليجيز إنشاء شركة عقارية لأجل ترتيب إجمالي منطقة أو جزء منها. وبتاريخ 22/7/1992 صدر المرسوم 2537 الذي أنشأ شركة مغفلة باسم «الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط مدينة بيروت». وقد تعرضت الشركة لاعتراض واسع، وتقاطعت معظم الآراء على أن القانون 117 الذي أتاح إنشاء الشركة خالف المبادئ الدستورية والقانونية من نواحٍ عدة، أبرزها: خرقُ المادة 15 من الدستور اللبناني التي تحظر نزع الملكية الفردية لأسباب لا علاقة لها بالمصلحة العامة المحققة، والتفريط بحرية التعاقد المكفول دستورياً، ومخالفة المادتين 21 و22 من قانون التنظيم المدني الرقم 69/ 1983 القاضي بالإبقاء على أصحاب الحقوق وأهالي المناطق المنوي إعادة ترتيبها في مناطقهم (بإعطائهم مساحة موازية لحقوقهم مع اقتطاع 25% لمصلحة الدولة). خالف القانون أيضاً وثيقة الطائف التي نصت على عودة كل مهجري الحرب إلى المناطق التي هجروا منها.
وبعد إقرار القانون 117، عينت سبع لجان تخمين بدائية ولجنة تخمين عليا و4 لجان لتخمين حقوق نحو خمسة وستين ألفاً من أصحاب الحقوق، ثم صدرت ثلاث صيغ للمخطط التوجيهي للوسط بين عامي 1992 و1994، وأدخلت عشرات التعديلات لمصلحة الشركة، فكل مرسوم لم يكن يخدم سوليدير «يصحح» بمرسوم آخر، في حين لم تستفد الدولة من هذه التعديلات. وقد سمح للشركة دون مبرر بوضع يدها على عقارات إضافية، لترتفع المساحة الإجمالية الواقعة في عهدتها من 1,117 مليون م2 بين أملاك خاصة وأملاك عامة إلى 1,980 مليون م2، بزيادة مقدارها 836 ألف م2 ونسبتها 77%. وهناك مخالفات فادحة ارتكبتها الشركة على ما ذكر أحد الوزراء، إذ إنها حصلت على نحو 75 ألف متر مربع باستثمار كلفته 1800 ل. ل.، كما مدد عمل الشركة بموجب مرسوم في مجلس الوزراء عام 2005 من 25 سنة إلى 35.


3 - وعد
ألحق العدوان الواسع الذي شنه العدو على لبنان في تموز 2006 واستمر ثلاثة وثلاثين يوماً، أضراراً كبيرة بالمناطق المدنية الأهلة بالسكان، وفي مقدمها الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث تضرر جراء الغارات والقصف الصاروخي الكثيف 1232 مبنى تضم 30 ألف وحدة سكنية وتجارية، ومن بينها 951 مبنى متضرراَ و281 مبنى مهدماً.
وفي أعقاب توقف الأعمال الحربية، برز خياران لإعادة الإعمار:
الأول: أن يقوم الناس بإعمار مبانيهم اعتماداً على التعويضات الحكومية وبمساعدة من جمعية جهاد البناء.
الثاني: أن تتولى جهاد البناء بنفسها إعادة الإعمار بتوكيل من المالكين.
اعتمد الخيار الثاني الذي يتناسب مع طبيعة السكن في الضواحي، حيث تنتشر الأبراج العالية وتتقاسم عائلات عدة أقساماً مشتركة، ويندر العثور في هذه الأبنية على جمعيات مالكين فعالة (لجان بيانات) وقادرة على إدارة ملف معقد كإعادة الإعمار.
تم إطلاق "وعد" بتاريخ 24/5/2007، وهي بحسب المنظمين الجهة الممثلة للمالكين الحقيقيين، تقوم بإدارة هذا الملف نيابة عنهم لإعمار المباني المهدمة كلياً وجزئياً وفقاً لتكليف قانوني واضح وصريح.
تمحورت أهداف مشروع وعد التابع لجهاد البناء حول الأمرين الآتيين:
عودة السكان سريعاً إلى أماكن إقامتهم وعملهم منعاً لحدوث فجوات ذاكرة (تبدد هوية المكان).
بناء المناطق المهدمة ضمن رؤية معمارية متكاملة هندسياً واجتماعياً وبيئياً.
وخلال خمس سنوات من العمل المضني، أعيد بناء 1,050,000 م2 بكلفة 400 مليون دولار أميركي (أو أكثر)، تحمل المشروع حوالى 33% منها تقريباً، ومولت الدولة الباقي من خلال تعويضات للسكان. وتوزعت المساحات المعاد تشييدها على 4000 شقة سكنية مهدمة و1700 قسم تجاري مدمر. وقد أدخلت تحسينات كبيرة على مواصفات المباني، فصارت مقاومة للزلازل وتلبي شروط السلامة العامة، وأضيفت مرائب للسيارات (سعة 1000 سيارة إضافية)، وزودت كل المباني بمولدات وآبار ارتوازية، مع تشجير الطرقات والساحات العامة.
نجح المشروع في إعادة النسيج الاجتماعي للمناطق المدمرة إلى ما كان عليه، مع إدخال التحسينات الممكنة، وواكب أصحاب الحقوق هذه العملية على نحو يومي وحثيث، وقد استفاد هؤلاء من المرونة الفائقة التي وسمت آليات عمل المشروع، فشاركوا في تصميم منازلهم وأعادوا النظر بها مع تقدم أعمال البناء، ليصل عدد طلبات التعديل التي لبّاها المشروع الى 10500 طلب، عدا التعديلات التي نفذت في مرحلة الدروس. ولم تكن هذه المرونة على حساب المواصفات العامة للمشروع الذي حافظ على خصائصه المخطط لها.