اقترحت الهيئات التنظيمية الفدرالية للبنوك في الولايات المتحدة، في الثلاثين من أيار/ مايو، السماح بمزيد من الحرية للمصارف للقيام بمضاربات أكثر خطورة بالودائع المصرفية المؤمّنة فدرالياً، مثل الأموال في حساباتنا الجارية وحسابات الادّخار. يعدّل الاقتراح بذلك ما يعرف بقاعدة فولكر (تيمّناً برئيس الاحتياطي الفدرالي السابق بول فولكر الذي اقترحها). وكانت هذه القاعدة جزءاً من قانون دود ــ فرانك، الذي تمّ تمريره بعد الانهيار الوشيك لوول ستريت عام 2008، من أجل تفادي حصول أيّ انهيارات مستقبلاً.
وكانت قاعدة فولكر نفسها نسخة معدّلة من قانون غلاس ــ ستيغال الذي سُنّ رداً على الانهيار الكبير عام 1929. وأجبر ذلك القانون المصارف على الاختيار بين أن تكون تجارية تقبل الودائع العادية وتقرضها أو أن تكون استثمارية تتاجر برأسمالها الخاص.
وكان المبدأ الرئيسي في قانون غلاس ــ ستيغال يقوم على إبعاد الأصول الخطرة عن الودائع المؤمّنة. ونجح ذلك القانون لأكثر من نصف قرن. ومن ثم شهدت وول ستريت فرصاً لجني الكثير من المال عبر المراهنة على الأسهم والسندات والأدوات الاستثمارية (المضاربات على المضاربات)، وأقنعت عام 1999 بيل كلينتون والكونغرس الذي هيمن عليه الجمهوريون، بنقض القانون.
وبعد تسع سنوات، احتاجت وول ستريت إلى الإنقاذ، وخسر الملايين من الأميركيين مدّخراتهم ووظائفهم ومنازلهم.
ولكن لماذا لم تقم أميركا ببساطة بإعادة اعتماد قانون غلاس ــ ستيغال من جديد بعد الأزمة المالية الأخيرة؟ الجواب هو أنّ مبالغ كبيرة من المال كانت على المحك. وكانت وول ستريت تنوي إبقاء الباب مفتوحاً أمام القيام بمضاربات بالودائع التجارية. لذلك، بدلاً من غلاس ــ ستيغال، حصلنا على قاعدة فولكر ــ حوالى 300 صفحة من الهراء التنظيمي والإعفاءات والثغرات.
واليوم من المرجّح أن تزداد هذه الإعفاءات والثغرات أكثر إلى أن تبتلع قاعدة فولكر بكاملها. وإن تمّ تمرير الاقتراح الأخير، فسوف نعود إلى حيث كنّا قبل أزمة عام 2008.
لماذا يجب السماح للبنوك باستخدام ودائع الناس في المصارف المؤمّنة من الحكومة الفدرالية لوضع رهانات محفوفة بالمخاطرعلى عاتق البنوك؟ يجيب المصرفيون بأن المعايير التنظيمية الأكثر صرامة تجعلهم في وضع غير مؤاتٍ بالنسبة إلى منافسيهم في الخارج.
كلام فارغ. فمنذ الأزمة المالية عام 2008، كانت أوروبا أكثر صرامة من الولايات المتحدة في كبح المصارف التي تقيم مراكزها الرئيسية هناك. وبريطانيا تفرض على بنوكها أن يكون لديها احتياطي من الرساميل أكبر مما هي الحال في الولايات المتحدة.
أما السبب الرئيسي لإنفاق وول ستريت مبالغ هائلة على محاولة تعديل قاعدة فولكر، فهو أنّه من دون هذه القاعدة يمكن للمصارف أن تجني مبالغ أكبر بكثير. فإذا ما أخذنا الجشع من وول ستريت لن يبقى سوى الأرصفة.
إذا ما أخذنا الجشع من وول ستريت فلن يبقى سوى الأرصفة


ونتيجة للدعم الذي حصلت عليه وول ستريت بعد عملية الإنقاذ الحكومية، أصبحت المصارف الكبرى أكبر، ولديها نفوذ أوسع من أي وقت مضى. فالمصارف وزبائنها يعرفون بكل تأكيد أنّهم سيحصلون على الإنقاذ إذا واجهوا مشاكل، ما يمنحهم موقعاً أكثر تفوقاً على منافسيهم الأصغر الذين لا يحصلون على مثل هذه الضمانات. لذلك تزداد المصارف نفوذاً يوماً بعد يوماً.
الرد الوحيد يكون بكبح جماح المصارف العملاقة. فقانون شيرمان لمنع الاحتكار لعام 1890، لم يصمّم فقط لتحسين الفعالية الاقتصادية عبر تقليص النفوذ السوقي لعمالقة الاقتصاد، على غرار شركات سكك الحديد والشركات النفطية، بل أيضاً لمنع الشركات من أن تصبح كبيرة جداً إلى درجة يقوّض نفوذها الديمقراطية.
الدرس الحزين من دود ــ فرانك وقاعدة فولكر هو أنّ وول ستريت نافذة إلى درجة لا تسمح بتنظيمها بشكل فعّال. وكان يفترض أن تتعلّم أميركا درس عام 2008 حين ركّعت وول ستريت باقي الاقتصاد وجزءاً كبيراً من العالم.
لو أنّ ترامب شعبوي حقيقي يقف في صف الشعب بدلاً من المصالح المالية النافذة، لكان سيقود المسيرة كما فعل تيدي روزفلت بدءاً من عام 1901. غير أن ترامب شعبوي مزيّف. ففي النهاية، عيّن الهيئات التنظيمية التي تقف ضد تنظيم وول ستريت. ويفضّل ترامب أن يثير الغضب الشعبي ضد الأجانب على أن يعالج الاستغلال الحقيقي للسلطة داخل أميركا.
لذلك قد يكون علينا الانتظار حتى الحصول على رئيس شعبوي تقدّمي، أو إلى حين تقترب وول ستريت من الانفجار مجدداً ــ وتسرق ملايين إضافية من مدخراتنا ووظائفنا ومنازلنا. وحينها سيطلب الشعب من الحكومة التحرّك من جديد.
بترخيص من www.socialeurope.eu
ترجمة: لمياء الساحلي

* بروفسور في السياسة العامة في جامعة كاليفورنيا في بيركيلي. شغل مناصب حكومية في ثلاث إدارات أميركية، آخرها وزير العمل في إدارة الرئيس بيل كلينتون. آخر مؤلفاته كتاب «إنقاذ الرأسمالية».