يوضع الناس دائماً في مواجهة مفاهيم «مُبهمة»، مثل المفهوم المزدهر هذه الأيام تحت عنوان «كبير»، يوحي بالاستبداد، هو «الشمول المالي». يجري طرح شمول كل الناس بالخدمات المالية كهدف من أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، ويقدّم كحل سحري لمشكلات «النمو» و«الفقر» و«المساواة»... فما الذي يعنيه هذا المفهوم تحديداً؟ وهل (حقّاً) تصبح حياة الناس أفضل ومستوى معيشتهم أعلى بمجرّد أن كان لكلّ منهم حساباً مصرفياً وقدرة معيّنة على اقتراض الأموال أو إيداعها أو تحويلها؟ التجربة في لبنان وبلدان أخرى تحمل إشارات واضحة على أن النتائج التي يعد بها «الشمول المالي» ليست على هذا القدر من الإيجابية، وأحياناً كثيرة تكون في غاية السلبية والخطورة.
إليكم هذه القصة الجميلة
«تدير ماري باندا مطعماً صغيراً في إحدى أقدم أسواق لوساكا في زامبيا. وقبل أن تعلم أنه بإمكان الخدمات المالية أن تجعل الطريقة التي تعمل بها أسهل، كانت تحقّق أرباحاً قليلة. بيد أن أرباحها ازدادت اليوم، لأنها تودع أموالها في المصارف، ولأنها تستخدم أيضاً خدمات تحويل الأموال عبر الهاتف المحمول. وقد أدّى استخدامها الخدمات المالية إلى تبسيط إدارة مطعمها وزيادة الأرباح. وتدفع حصيلة عملها الآن رسوم مدارس أطفالها». ماري باندا هي مثال النساء اللواتي «لا يخشين التعامل مع المصارف». لذلك لم تعد تشعر بأي تمييز ضدها، لا بسبب فقرها ولا بسبب جنسها.

بالأرقام


85.7%
من مجمل الودائع تتركّز لدى 8% من المودعين، أي 6% من مجمل البالغين وفق مفهوم الشمول المالي

3000%
هي نسبة ارتفاع عدد المقترضين في المصارف اللبنانية بين عامَي 1993 و2017


لقد اكتشفت سعادتها في حساب مصرفي، وكذلك وجدت فيه الأمان والرعاية. تقول ماري باندا لنا: «من المهم للغاية ادّخار المال لأن القطاع غير الرسمي الذي نعمل فيه ليس به أي ضمان اجتماعي!»
هذه القصّة المشوّقة يسردها البنك الدولي على موقعه على الإنترنت، تحت عنوان أكثر تشويقاً: «مكاسب الشمول المالي: مكاسب من أجل النمو المستدام»، يقدّم عبره الطبعة الثالثة (نيسان/ أبريل 2018) من المؤشر العالمي للشمول المالي، الذي بدأ بإصداره في عام 2011، وهو قاعدة بيانات ترصد الجهود المبذولة في مجال الشمول المالي في جميع أنحاء العالم. يريد البنك الدولي من خلال سرد «قصص النجاح» أن يبرهن «أنه من دون الحصول على الخدمات المالية، فإن النساء والفقراء وأصحاب المشروعات المتناهية الصغر كانوا سيقصّون قصصاً مختلفة».
هكذا، وعلى طريقة «وجدتها»، ينسج البنك الدولي «الأسطورة» الجديدة، التي اكتشفت أن تعميم الخدمات المالية على الجميع هو، منذ الآن، شرط ضروري وواجب من شروط «التنمية المستدامة» و«النمو الاقتصادي» و«القضاء على الفقر» و«المساواة بين الجنسين»، وأن حقّ كل شخص راشد بأن يكون لديه حساب مصرفي سيكون (قريباً) من ضمن «حقوق الإنسان» الأساسية. لذلك تعمل هذه الأسطورة على تقديم مفهوم «الشمول المالي» كتحدٍّ كبير أمام صانعي السياسات والقطاع الخاص والعاملين في مجال التنمية والمجتمع المدني. فقد تمّ دمج هذا المفهوم في 7 من أهداف التنمية المستدامة الـ17 التي وضعتها الأمم المتحدة لعام 2030. وفي عام 2016، أجمعت مجموعة العشرين على «تعميم الخدمات المالية لتكون ركيزة رئيسية لأجندة التنمية العالمية». وفي السنوات الأخيرة، تزايد عدد الدول التي قدّمت تعهدات رسمية، أو وضعت استراتيجيات «وطنية»، لتعميم الخدمات المالية وتيسير استخدامها من أجل «تحسين إدارة المخاطر والخلاص من براثن الفقر وبناء حياة أفضل».

«الأمولة»: الجميع تحت السحر
بدأ مفهوم «الشمول المالي» بالظهور منذ تسعينيات القرن الماضي، واتخذ أسماءً مختلفة وأشكالاً متنوّعة، كالقروض المجهرية وبنوك الفقراء، وتطوّر مع الوقت بحسب مراحل تطوّر ما يسمّيه الاقتصاديون «أمولة الاقتصاد» أو «الرأسمالية المالية»، التي تضخّم فيها القطاع المالي كثيراً قياساً إلى القطاع الإنتاجي. فما حدث في العقود الثلاثة التي سبقت انفجار أزمة عام 2008، أن حجم التمويل العالمي، أي رأس المال المالي الجاهز للإقراض والمضاربات بحثاً عن حصة من الربح، كان في الثمانينيات يساوي تقريباً حجم التجارة العالمية، وكان العالم يُنتج ربع ما يُنتجه الآن. ولكنه تضخّم منذ ذاك الوقت، وبات حجم التمويل العالمي يساوي 8 أضعاف حجم التجارة العالمية. فلماذا قد يحتاج الناس إلى هذا القدر الهائل من التمويل الذي يفوق حاجتهم الفعلية للاستثمار والإنتاج والاستهلاك؟
يشرح محمود الخفيف، مسؤول الشؤون الاقتصادية في منظّمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أونكتاد»، أن الدول لم تتعلّم ممّا حدث عام 2008، فهي «تعتمد سياسات نقدية توسعية، وفي الوقت نفسه، سياسات مالية تقشّفية أو سياسات مالية تقييدية. وهذا بالتحديد لن يؤدي إلى نمو. وسيزيد الضغوط على الدخل، ولا سيما الأجور».


ما العمل إذاً؟ كيف يمكن امتصاص نتائج هذا التباين؟ حيث تؤدي السياسات النقدية التوسعية إلى خلق سيولة عالية جداً، أموال وتدفقات بلا قيود وبلا روابط، وغير موجّهة للاستثمارات الإنتاجية، بل معظمها تدفقات موجّهة للاستثمارات المالية أو استثمارات المضاربة. في حين تؤدّي السياسات المالية التقشفية أو التقييدية، في الوقت نفسه، إلى تجميد الأجور وتخفيض دعم الأسعار وتقليص الإنفاق الاجتماعي والتنازل عن تأمين الحماية الاجتماعية والخدمات العامة والبنية التحتية للشركات الخاصة، أي أن يقابلها تراجع في القدرة على الاستهلاك وبالتالي القدرة على زيادة الإنتاج.
لنطرح السؤال بطريقة مختلفة: لماذا نحن نحتاج إلى التمويل؟ يجيب الاقتصاديون: نحتاج إليه للتجارة. ولكن ماذا يحصل عندما يفيض التمويل عن حاجة التجارة؟ عندها لا تعود الأموال تُستخدم للأغراض الإنتاجية بل تذهب لتمويل «الفقاعات». وهذا هو المعنى الحقيقي لمفهوم «الشمول المالي»، الذي يقدّم وصفة جيدة جداً لتكوين المزيد من «الفقّاعات»، كفقّاعة الرهون العقارية التي انفجرت في الولايات المتحدة عام 2008 وهزّت الاقتصاد العالمي من أساساته.
في الواقع، ينتمي مفهوم «الشمول المالي» إلى مفهوم «الأمولة» الأوسع والأقل شعبية، الذي ينطوي على توسيع غير محدود للأسواق المالية وهندساتها، وهو يعبّر عن تحوّل الرأسمالية من «الصناعية» إلى «المالية»، في حين أن «الشمول المالي» يلعب دور الآلية التي يتمّ عبرها تحويل الجميع إلى عملاء ماليين في خدمة مصالح رأس المال المالي، سواء عبر الرهون العقارية، أو القروض الاستهلاكية، أو برامج التعليم والتأمين على الصحة والحياة والحوادث والكوارث، أو عبر فرض توطين الراتب واستخدام بطاقات الدفع الرقمي (بالحساب الجاري أو بالدين أو بواسطة الدفع المؤجّل) وادخار تعويضات التقاعد لقاء فائدة أو عائد من التوظيفات في البورصة، أو عبر دعم فوائد القروض المصرفية لتشجيع المزيد من الأسر والمشاريع الصغيرة على الاستدانة... بمعنى ما، يعبّر مفهوم «الشمول المالي» عن مدى اختراق القطاع المالي للمجتمع تجسيداً لسيطرته على الاقتصاد السياسي.

كلنا زبائن لدى المصارف
بحسب قصص النجاح التي يسردها البنك الدولي، يتبيّن المدى الذي يُراد أن يبلغه هذا الاختراق المالي للمجتمع، ففي ظل تعاظم «الأمولة»، بدأ البحث عن الربح من تمويل حاجات الناس إلى العمل والدخل والسكن والصحة والتعليم. لذلك تعرّف الأمم المتحدة «الشمول المالي» على أنه «وصول الأفراد والمؤسسات الصغيرة ومتناهية الصغر، إلى الخدمات المالية بصورة شاملة وكلفة معقولة»، وتعتبر أن هذا الهدف «يعدّ أمراً حاسماً في تعزيز القطاعات المالية وتعبئة الموارد المحلية وتحقيق التنمية في البلدان النامية». ويستهدف «الشمول المالي»، وفق البنك الدولي، «الفقراء والنساء والشباب، ويشجّعهم على فتح حسابات مصرفية والتعامل مع المؤسسات المالية والاستفادة من التقنيات التكنولوجية والتطبيقات الهاتفية لإجراء معاملاتهم، ما يتيح لهم إمكانية الوصول إلى الخدمات المالية بالقدر نفسه المُتاح للأكثر ثراء، نظراً لأن حاجتهم إلى هذه الخدمات أكبر، فإنهم سيزيدون استهلاكهم ويحسّنون واقعهم المعيشي، ولن يعودوا مضطرين للتعامل النقدي (الكاش) أو الاحتفاظ بمدخراتهم في بيوتهم، وسيكون بمقدورهم التخفيف من حدّة الصدمات في حالات الطوارئ أو المرض أو العجز، كما سيكون بمقدورهم ضخّ استثمارات مُنتجة».
بهذه البساطة والسذاجة المُفرطة، يظهر مفهوم «الشمول المالي» كمفهوم أيديولوجي أكثر مما هو أمر آخر. وهو يطرح الاستعاضة عن مفاهيم «الرعاية» و«الإحسان»، التي سادت في السابق بوصفها من مسؤولية الدولة والأثرياء، بمفاهيم «نيوليبرالية» تصرّ على أن حلّ المعضلة يكمن حقّاً في المثل الشائع الذي يدعو إلى إعطاء الصيّاد صنّارة صيد بدلاً من إعطائه سمكة. وكأن الناس معزولون عن ظروفهم كليّاً، وكل ما يحتاجون إليه هو الوصول إلى التمويل حتى يغيّروا واقعهم ويأخذوا حصّتهم من العائد.
على الرغم من إدراك الناس العميق أن الأمر لا يسير على هذا المنوال، وهم يجدون أنفسهم غارقين تحت جبال هائلة من الديون والالتزامات المُرهقة، إلا أن المؤشر العالمي للشمول المالي لعام 2018، يبين أن المصارف بات لديها 1.2 مليار زبون إضافي منذ عام 2011، والعمل جار بوتيرة متسارعة لشمول 1.7 مليار شخص لا يزالون «محرومين» من «نعمة» المصارف وخدماتها، بحسب الوصف الذي يكرّسه هذا المؤشر لغير المتعاملين مع المؤسسات المالية.
كيف سيتم تحويل 100% من الأشخاص الراشدين إلى عملاء ماليين؟ ولماذا هذا الهدف أصبح مهمّاً اليوم؟
لا ينحصر الفقر والتنمية بعدم قدرة الحصول على التمويل، بل يرتبطان بعوائق نظامية أعمق


وفق المبشّرين بقرب تحقيق هذا الهدف، فإن التغيرات والابتكارات السريعة في مجال التكنولوجيا، ولا سيما انتشار استخدام الهواتف المحمولة وأدوات الدفع عبر الإنترنت، تقود الموجة الحالية للشمول المالي، إذ يجري ابتكار المزيد من الوسائل التي تهدف بالدرجة الأولى إلى تمويل الاستهلاك للمحافظة على نمو اقتصادي، ولو محدود، وتهدف بالدرجة الثانية إلى تخفيض التعاملات بالنقد «الكاش» وتخفيض النقد المتداول خارج النظام المالي «الرسمي»، وذلك بهدف الحدّ من المخاطر التي قد تهدّد استقرار هذا النظام.



التجربة اللبنانية: نقمة لا نعمة
على الرغم من صيت القطاع المصرفي اللبناني كقصة نجاح لبنانية، إلا أن مرتبة لبنان على مؤشر الشمول المالي العالمي متدنية كثيراً، وفي شكل لافت. وبحسب قاعدة بيانات البنك الدولي لا يمتلك سوى 45% من الراشدين المقيمين حسابات مصرفية، بالمقارنة مع 73% في الشريحة العليا في البلدان المتوسطة الدخل، التي يصنّف لبنان في عدادها. وتنسجم نسبة الشمول المالي في لبنان مع متوسط بلدان الدخل المتوسط في منطقة الشرق الأوسط (من دون الدخل المرتفع كقطر) الذي يبلغ 43%.


ويعتبر أنصار «الشمول المالي» أن السياسات اللبنانية مُقصّرة حتى الآن، فلبنان مهيأ أكثر من غيره في المنطقة ولكنّه متأخر، بدليل تراجع عمليات الدفع عبر الإنترنت فيه إلى 16% بالمقارنة مع 77% في الدول المتوسطة الدخل الأعلى، إذ لا تزال عمليات الدفع نقداً هي الشائعة في لبنان (83%).
يريد حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، أن يعكس الصورة، ويقول إنه حقّق «إنجازات» كثيرة. ففي كلمة له في اليوم العربي للشمول المالي في نيسان/أبريل الماضي، أعلن أن «عدد الحسابات المصرفية، في نهاية 2017، بلغ 5 ملايين حساب، وأن عدد المودعين وصل إلى ثلاثة ملايين مودع». وكان قد أعلن في تشرين الأول/أوكتوبر الماضي، في مؤتمر الطاقة الوطنية، أن «عدد المقترضين ارتفع من 34 ألف مقترض عام 1993 إلى 934 ألف مقترض حالياً».
في الواقع، وصل عدد المقترضين في نهاية 2017 إلى مليون و27 ألف شخص. (الأسر اللبنانية مثقلة بالديون – رأس المال – 23 نيسان/ أبريل 2018). وتشير إحصاءات مصرف لبنان إلى أن قروض القطاع الخاص بلغت عام 2017 نحو 68.7 مليار دولار، وأن 86.4% من المقترضين هم أسر وأفراد يرزحون تحت قروض شخصية بقيمة 21.4 مليار دولار، من ضمنها 13 مليار دولار قروض سكنية، ترزح تحتها 131 ألف أسرة لجأت إلى الدين لتملّك مساكنها، فضلاً عن 8.4 مليار دولار اقترضتها الأسر لتمويل استهلاكها وتسديد أقساط التعليم وشراء السيارات.

86.4%

من المقترضين هم أسر وأفراد يرزحون تحت قروض شخصية بقيمة 21.4 مليار دولار من أصل 68.7 مليار دولار قيمة قروض القطاع الخاص في عام 2017

وتحذر دراسات عدّة من أن مستوى مديونية الأسر بات يستنزف أكثر من نصف دخلها المتاح، وبالتالي يُضعف قدرتها على تنمية أوضاعها لا العكس، كما يفترض مفهوم «الشمول المالي». وللأسف، لا تقتصر القروض على المصارف، إذ بحسب تقرير تقييم القطاع المالي، الصادر عن صندوق النقد الدولي في عام 2016، يوجد أكثر من 235 ألف مقترض من المؤسسات المالية غير المصرفية، ويشير التقرير إلى أن مؤسسة القرض الحسن تمثل نصف السوق، تليها مؤسسة «المجموعة» التي تشكل تقريباً النصف المتبقي من السوق.
كذلك، تشير التقديرات إلى وجود أكثر من 67 ألف مشروع صغير ومتوسط في لبنان (96.1% مُسجّلة)، وتوظّف 50% من القوى العاملة، وتساهم في 27% من إجمالي الإيرادات، لكنها لا تحظى سوى بخُمس إجمالي الائتمان المقدّم للقطاع الخاصّ.
في المقابل، تبيّن إحصاءات مصرف لبنان أن 60% من الحسابات المصرفية تقلّ ودائعها عن 5 ملايين ليرة لبنانية، أي إنها بلا أي ودائع تذكر، ومعظمها أنشئ لتوطين الرواتب أو كشرط إلزامي للحصول على القروض (كبار المودعين: من هم؟ كم يملكون؟ - رأس المال – 5 آذار/مارس 2018). وتكشف هذه الإحصاءات أن 85.7% من مجمل الودائع تتركّز لدى عدد قليل جداً من المودعين، لا يتجاوز 8% من مجمل المودعين (أو 6% من مجمل الراشدين المقيمين في لبنان بحسب مفهوم الشمول المالي). علماً أن 0.1% من المودعين، يستحوذون وحدهم على أكثر من 27.9% من مجمل الودائع.
هذه النتائج التي يحقّقها «الشمول المالي» في لبنان، تدفع إلى القلق وتدحض الكثير من مزاعم هذا المفهوم المُلتبس، إذ كيف يكون «الشمول المالي» مفيداً عندما تقاسم المصارف الناس دخلها وتجعلها رهينة خدمة قروضها؟



هل هذا ما يحتاج إليه المجتمع؟
نشرت مبادرة Private Debt Project، تقريراً تحت عنوان «الشمول المالي وبؤسه» للباحثين الاقتصاديين إنغريد كفانغرافن وباولو دوس سانتوس، يبديان فيه ملاحظاتهما على مفهوم الشمول المالي، بوصف قاعدته التحليلية بـ«الساذجة»، ويعيدان ذلك إلى كون «التنمية ليست رداءً بقياس واحد يمكن إلباسه لكل الاقتصادات وتوقّع الحصول على النتائج نفسها، بدليل أن مؤشرات الشمول المالي في إيران وتركيا وتايلاندا مرتفعة في حين أن مستويات التنمية فيها منخفضة، بينما مقاييس التنمية في ألبانيا وأرمينيا والمكسيك مرتفعة فيما مستويات الشمول المالي متدنية».
يدحض التقرير نظرية تحقيق التنمية والحدّ من الفقر المطروحة، بالإشارة إلى أن «التنمية لا تتعلّق بالاقتصاد الجزئي والعمليات المُعزّزة بالقروض، وأن الفقر لا ينحصر بعدم قدرة الحصول على التمويل، بل يرتبطان بعوائق نظامية، وضعف البنية التحتية، وغياب التكنولوجيات والمهارات...، وهي مشكلات أعمق كونها تحول دون تطوير مشاريع استثمارية عالية الإنتاجية، ولا يجد المستثمرون الراغبون بالربح دافعاً لتمويلها، فيؤدي تمويلها من ذوي الدخل المنخفض تحت عنوان الشمول المالي إلى إفلاسها، وزيادة مديونية المقترضين. كما أن المكاسب الحقيقية من التمويل لا تتعلّق بمعدلات الفائدة، وإنما بوجهة إنفاقه، فتركيز الموارد على نشاطات غير مُربحة يشيح الاهتمام عن التصنيع الذي يعزّز الإنتاجية، وإنفاقها على الاستهلاك يزيد المديونية الخاصة».

أنقر الصورة للتكبير

يستند هذا التقرير إلى مراجعة أعدّتها «الإدارة البريطانية للتنمية الدولية»، حول دراسات الشمول المالي وآثارها على البلدان النامية في تسعينيات القرن الماضي، وتبيّن أنها «ذات منهجيات ضعيفة، ولم تظهر فوائدها في انتشال الملايين من الفقر، بل إن جهود الدول للترويج لها بدل دراسة آثارها أدّى إلى سوء توزيع الموارد». ويضيف أن «90% من القروض أنفقت على الاستهلاك، وكانت مغطّاة برهون عقارية أو بمصادر دخل مستقلّة، ما يتناقض مع الائتمان الإنتاجي المدعوم بمشاريع تولّد تدفقات نقدية، ما يدحض نظرية مساهمة هذه القروض في تحقيق التنمية، ومعه يصبح الشمول المالي المُتبع في شكل مستقل عن سياسات بنيوية تتصدّى للفقر، غير فعّال في أحسن الأحوال، أمّا في الحالات الأسوأ فيصبح حاجزاً مؤسساتياً وسياسياً يحول دون تحقيق التنمية المستدامة. فضلاً عن أن ربحية القروض الإنتاجية المتدنية تدفع بالمصارف نحو القروض الاستهلاكية المُربحة حتى في المناطق الفقيرة، والتركيز في استراتيجيات التنمية التي تجبر الأسر على الاقتراض لتلبية احتياجاتها في المسكن والصحة والتعليم، ما يؤدّي إلى ابتعاد الحكومات عن إيجاد استراتيجيات وحلول بديلة».
قد تكون أزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة الأميركية عام 2008، المثال الأشهر عالمياً للدلالة على الأثار التي قد يرتبها «الشمول المالي» على المجتمعات التي تسعى لتعميمه، بحيث دفعت فكرة شمول الجميع بالخدمات المالية إلى زيادة القروض بضمانات عقاريّة، لمن لا يملكون ضمانات أخرى، وسمح للمؤسسات المالية بمضاعفة أرباحها على حساب الفئات الأضعف، وكانت النتائج مدمّرة. هناك تجارب سيئة أخرى لبلدان تعرّضت لأزمات مالية واجتماعية وسياسية نتيجة ارتفاع المديونية الخاصة، التي تعدّ أساس الشمول المالي، أبرزها تجربة المكسيك، من خلال شركة Compartamos التي دعمتها مؤسسة التمويل الدولية لتقديم قروض للأسر الفقيرة والنساء، ففرضت معدلات فائدة عالية جداً وصلت إلى 195%، وهو ما سمح لها بتحقيق أرباح بقيمة 400 مليون دولار أميركي عام 2007. وينسحب ذلك على جنوب أفريقيا أيضاً، التي عايشت أزمة ناتجة من ارتفاع المديونية الخاصة، أدّت إلى إضراب عمّال المناجم، وبلغت الاحتجاجات ذروتها بقتل الشرطة لعشرات العمّال، لتصبح هذه الأحداث إحدى أسوأ حلقات العنف الحكومي في البلاد بعد التفرقة العنصرية.
هذه الفصول لا تزال محذوفة من «أسطورة» الشمول المالي.