كل يوم يمر هو يوم ضائع، في غياب مشروع "تصنيع متأخّر" تضعه الدولة موضع التنفيذ. وهو ضائع لأنه يطيل فترة الانتظار قبل الشروع بعملية تصنيع تجعل من لبنان اقتصاداً منتجاً ودولة صناعية. وهو ضائع لأنه يفاقم خسارة لبنان لشعبه وأبنائه الأكثر تأهيلاً، الذين يذهبون إلى أقاصي الدنيا لإيجاد عمل ويبقون هناك.1. ما المقصود بـ"التصنيع المتأخّر"؟
المقصود بذلك هو اكتساب المقدرة على إنتاج سلع ترسملية (capital goods) أو آلات. حقق الكثير من بلدان العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية بناء قطاعات صناعية واسعة، اشتملت على الصناعات التي توفر سلعاً استهلاكية وعلى صناعات ثقيلة تنتج السلع الوسيطة التي تُستخدم كمدخلات، كالاسمنت والكيماويات والحديد والصلب. لكن كل تلك البلدان توقفت عند هذا الحد، ولم تذهب إلى إنتاج ماكينات (بريتون، 1998).
شذّت عن هذه القاعدة بضع دول في شرق آسيا، اشترت من الأسواق الدولية الماكينات الموجودة، وعمدت إلى تفكيكها في مؤسساتها المحلية و"تعلّم" إعادة تركيبها. باتت بعد ذلك قادرة على إنتاجها بنفسها. وهي بالتالي لم تعد مجرد مستورد لها، بل أصبحت قادرة بدورها على إنتاجها وتصديرها إلى الأسواق الدولية.
إطلاق مشروع «تعلّم» تكنولوجي لإنتاج سيارة مدنية لبنانية


هذا هو "التصنيع المتأخّر" الذي حصل خلال القرن العشرين. وهو التصنيع الذي لم يحتج إلى مقدرة على اختراع سلع أو طرائق جديدة، بل قام على "تعلّم" كيفية إعادة إنتاج سلع موجودة ومتداولة، وذلك من خلال "تعلّم" مواصفات هذه السلع وإعادة إنتاجها.
2. ما حاجتنا في لبنان إلى "التصنيع المتأخّر"؟
نحتاج إلى "التصنيع المتأخّر" لأنه الطريقة الوحيدة لحل مشكلة البطالة، وخصوصاً بطالة المتعلمين. يوفّر النظام التعليمي اللائق إلى حد ما تأهيلاً لا بأس به للقوى العاملة الشابة. باتت هذه القوى تذهب بكاملها إلى الخارج، وغالباً إلى غير رجعة، في غياب عمل لها في الداخل. بل يمكن اعتبار لبنان بلداً منكوباً بفعل المدى الذي بلغته هجرة القوى العاملة الشابة خلال العقود الثلاثة المنصرمة.
ونحتاج إلى "التصنيع المتأخّر" لأنه المدخل إلى بناء قوة عسكرية حديثة تتيح للبنان متابعة التصدي لإسرائيل، والمساهمة بإنجاز الأهداف المشتركة لحركة التحرر الوطني العربية في مواجهة الاستعمار الغربي.
3. ما الشروط التي تجعل "التصنيع المتأخّر" ممكناً ؟
أثبتت الوقائع التاريخية منذ ألكسندر هاملتون، وزير الخزانة الأول للولايات المتحدة المستقلة حديثاً في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، مروراً بتجارب البلدان التي "أتت متأخّرة إلى التصنيع"، كألمانيا في منتصف التاسع عشر، أن هذا التصنيع لا يكون ممكناً إلا إذا وفّرت الدولة له دعماً وحماية. لا تكتسب دولة ما "ميزات مقارنة" في قطاع صناعي بعينه إلا بالممارسة والتجريب، أي بـ"التعلّم" (learning) الذي لا يتحقّق إلا مع الوقت، وإذا توفرت له حماية من منافسة السلع الأجنبية له.
لكن قبل الحديث عن الأدوات التي ينبغي أن تحمي الدولة بها "التصنيع المتأخّر" وتدعمه، يجب إيضاح طبيعة العلاقة بين الدولة وبين القطاع الخاص في هذا السياق. بلور بيتر إيفانز (1995) مفهوم "العلاقة بين الدولة والمجتمع" (state-society relation) لاختصار علاقة الدولة مع النخب الاستثمارية التي تؤول إلى قيام مشاريع مشتركة بين الاثنين، تتولى فيها الدولة تقديم الدعم ويتولى القطاع الخاص فيها الاستثمار (إيفانز، 1995). وجد إيفانز أن أفضل من أوضح الماهية التي ينبغي أن تكون عليها العلاقة بين الدولة والنخب الاستثمارية هو هيرشمان (1958)، الذي اختصرها تحت عنوان "تعظيم مقدرة هذه النخب على اتخاذ القرار الاستثماري". أوضح الباحثون المختصّون بالنموذج الآسيوي كأليس أمسدن وروبرت واد وبيتر إيفانز نفسه، الأشكال الملموسة لعلاقة الدولة بالنخب الاستثمارية، أو لتعظيم مقدرة هذه النخب على اتخاذ القرار الاستثماري. كان الدعم هو الواسطة أو الأداة الرئيسة التي اعتمدتها الدولة في هذه البلدان لتحقيق "التصنيع المتأخّر" فيها.
4. كيف نترجم هذه الأفكار إلى خطة ملموسة في حالة لبنان؟
نذهب مباشرة إلى الهدف. المطلوب هو بناء مقدرة وطنية على إنتاج سلع تجهيزية أو ماكينات. لكن أي نوع من الماكينات؟ يمكن أن نختار تحقيق مقدرة إنتاجية في قطاع السيارات المدنية. وإذا تمكنّا من إنتاج محرك سيارة مدنية بإمكاناتنا الذاتية، فسوف نتمكّن من إنتاج محركات أكبر لاستخدامات أخرى. الهدف هو إذاً إنتاج سيارة مدنية وطنية لبنانية. ولكي تكون وطنية، يجب أن تكون نسبة المكونات المحلية أو "المحتوى المحلي" (local content) فيها في أعلى درجة.
عام 2000، عرضت أليس أمسدن، الاختصاصية الكبيرة في "اقتصاد التنمية" وفي تجارب شرق آسيا في مؤتمر دولي في بانكوك، صيغة لإطلاق مشاريع "تصنيع متأخّر" في البلدان النامية، تقتضي الحد الأدنى من الإصلاح الإداري، أي تتواءم مع حالة تبقى الإدارة العامة في مجملها على ما كانت عليه. استوحت تجربة تايلاندا في هذا المجال (أمسدن، 2000).أنشأت تايلاندا "مكتب الاستثمار" الذي كان هيئة حكومية مكوّنة من فنيين بأعلى مستوى، كان دورهم ينحصر في التفتيش عن مؤسسات إنتاجية قادرة على خوض تجارب تصنيع لسلع تجهيزية أو ماكينات، إذا وفّرت الدولة لها دعماً. كان "المكتب" يوقع اتفاقيات مع هذه المؤسسات، يشترط فيها أن تحوز هذه الأخيرة مقدرة إنتاجية تنافسية خلال فترة محدّدة، مقابل الدعم غير المحدود الذي تقدمه الدولة لها. تم توفير صلاحيات لـ"المكتب" المذكور تسمح له بتأمين عناصر الدعم هذه. وهو كان مخوّلاً التوجّه إلى الإدارات الحكومية المختلفة للاستحصال منها على قروض طويلة الأجل وفوائد مدعومة وإعفاءات ضريبية وحماية جمركية، لمصلحة المؤسسات التي تم التعاقد معها.
يمكن الانطلاق من الفكرة ذاتها لإنشاء جهاز إداري حكومي تحت مسمى "الهيئة الوطنية لإنتاج المركبات الآلية"، يتم تنسيب أفراده على قاعدة الاستحقاق فقط، مع ضمان تمثيل الطوائف فيه، ويكون هدفه إطلاق مشروع "تعلّم" تكنولوجي لإنتاج سيارة مدنية لبنانية. ينبغي أن تُوفَّر لـ"الهيئة" صلاحيات مشابهة لصلاحيات "مكتب الاستثمار" التايلاندي، أي القدرة على تقديم أشكال الدعم المختلفة للمؤسسات التي يتم التعاقد معها.
يمكن الاستفادة من التجربة التايوانية في مجال الدعم الحكومي للمؤسسات الخاصة، والتي جسدتها على وجه الخصوص "المحميّات الصناعية"، أي "المناطق الصناعية" التي أنشأتها وجهزتها الإدارة الحكومية ووضعتها في تصرف المؤسسات الإنتاجية المعنية بحيازة فعالية إنتاجية تخولها التصدير إلى الأسواق الخارجية. وفّرت تلك المحميات على المستثمرين الجدد 60% من أكلاف الاستثمار الأساسي المتعلّق بنشاطهم (داغر، 2006).
يمكن أن تتولى "الهيئة" توفير "مناطق صناعية" أو "محميات صناعية" واسعة توزّع على المحافظات الست، وذلك باستخدام الأملاك العائدة للبلديات، أي على الأملاك العامة. تتولى "الهيئة" تجهيز هذه المحميات بالبنى التحتية والإنشاءات اللازمة في أسرع وقت. تقدم "الهيئة" المحميات وإنشاءاتها للمؤسسات الخاصة التي تم التعاقد معها لإنتاج مكونات أو قطع غيار المركبات الآلية.
يمكن، بل ينبغي، الاستفادة من التجربة الإيرانية الناجحة في مجال "التصنيع المتأخّر"، وخصوصاً في مجال إنتاج السيارات المدنية (داغر، ٢٠١٦ (أ)؛ 2016 (ب)). لا يزال عدد من الذين أطلقوا مشروع "التصنيع المتأخّر" الإيراني في قطاع السيارات المدنية على قيد الحياة. كان الدكتور بهزاد نبوي من موقعه كوزير للتصنيع الثقيل، قد أقنع رئيس الجمهورية الإيرانية عام 1988 بشراء تجهيزات شركة "تالبوت" الإنكليزية التي أفلست، وأنشأ بواسطتها شبكة منشآت ومنتجين من القطاع الخاص، تولوا منذ ذلك التاريخ "تعلّم" كيفية إعادة تصنيع هذه المكوّنات بمقدرتهم الذاتية، وإنتاج سيارة إيرانية بـ"محتوى محلي" بلغ 80% من هذه المكوّنات (بزرجمهري، 2012).

المراجع
Amsden Alice, “Industrialization Under WTO Law”, in UNCTAD X, High-Level Round Table on Trade and development: Directions for the Twenty-First Century, Bangkok, 12-19 Feb., 2000, 16 pages.
BrutonHenry, “A Reconsideration of Import Substitution”, in Journal of Economic Literature, vol. 35, June 1998, pp. 903-936.
Evans Peter, "A comparative Institutional Approach", in P. Evans, Embedded Autonomy: States and Industrial Transformation, Princeton Univ. Press, 1995, pp. 21-42.
BozorgmehriDariush,“The Developmental State and the Rise of Iran Auto”, Department of Sociology, University of California, Berkeley, 2012, 56 pages.
ألبر داغر، "دور الدولة في بناء القدرة التنافسية الدولية للإنتاج الوطني: حالتا لبنان وسوريا"، مساهمة في الندوة حول "القدرة التنافسية للمنتجات السورية، في ظل اتفاقات التجارة الحرّة"، المركز العربي للدراسات الاستراتيجية وغرفة صناعة حلب، 11 و12 تشرين الأول، 2004. صدرت في كتاب عن المركز، وأعيد نشرها في: ألبر داغر، أيّ سياسة صناعية للبنان: مقاربة مختلفة لدور الدولة في الاقتصاد، "المركز اللبناني للدراسات" (LCPS)، بيروت، 197 صفحة، 2005، ص. 51 – 74.
ألبر داغر، "نحو رؤية بديلة للسياسة الاقتصادية في لبنان"، مساهمة في ندوة "المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق" و"الحركة الثقافية ـــ الاجتماعية"، بيروت، 8 نيسان 2006. نشرت في مجلة أبعاد ـــ المركز اللبناني للدراسات، أيلول 2006، ص. 91 – 111، وفي كتاب، المأزق الاقتصادي ـــ الاجتماعي في لبنان والخيارات البديلة، بيروت، المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، 2008، ص. 69 – 110، وفي ألبر داغر، أزمة بناء الدولة في لبنان، دار الطليعة، 2012، 224 صفحة، ص. 161 – 187.
ألبر داغر،"التحوّل إلى دولة صناعية: تجربة إيران نموذجاً"، مختصر لورقة بعنوان: «اكتساب المقدرة التكنولوجية كمدخل للتنمية المستدامة»، معدّة للمؤتمر السنوي لـ«الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية» – القاهرة، نُشِرت في الأخبار، 5/1/2016 (أ).
ألبر داغر،"التعاون والشراكة الممكنان بين العرب وإيران في مجال "التصنيع المتأخّر"، مساهمة في مؤتمر "المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق"، تحت عنوان: "العرب وإيران في مواجهة التحديات الإقليمية: الفرص وآفاق الشراكة"، – بيروت – فندق رمادا ــ بلازا، 31 أيار و1 و2 حزيران 2016 (ب).