تطرح الحكومة برنامجاً للاستثمارات العامة، تقدّر كلفته الإجمالية بنحو 22.9 مليار دولار، ويتضمن نحو 250 مشروعاً، تنوي تنفيذها على مدى السنوات الـ12 المقبلة. ومن المقرر أن تُعرض المرحلتان الأولى والثانية من هذا البرنامج على مؤتمر باريس ــ 4 (في 6 نيسان المقبل)، في محاولة لجذب التمويل المطلوب، سواء عبر القروض المباشرة أو عقود الشراكة مع الشركات الأجنبية والمحلية. وبحسب المعلومات التي يوفرها معدّو المشروع، ستبلغ كلفة المشاريع في هاتين المرحلتين نحو 17.3 مليار دولار على فترة 8 سنوات.قبل الخصخصة الكاملة
في هذا السياق، كشفت الحكومة عن 19 مشروعاً للاستثمار في البنية التحتية، تبلغ كلفتها نحو 5.9 مليارات دولار، وتمثّل الدفعة الأولى من مشاريع بكلفة 7 مليارات دولار، ستعرضها أمام الشركات في المرحلتين المذكورتين. ما يعني أن الحكومة تخطط لتنفيذ أكثر من 40% من المشاريع عبر عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
تتوزّع المشاريع المعروضة حالياً على قطاعات النقل، والطاقة والمياه، والصرف الصحي، ومعالجة النفايات، والاتصالات. وتشمل العقود المقترحة عمليات تصميم وبناء وصيانة وتشغيل: مرافئ، مطارات، أوتوسترادات، معامل إنتاج الطاقة، محارق نفايات ومنظومات صرف صحي وغيرها... وتقضي هذه العقود بمنح المستثمرين امتيازات، قد تصل مدتها إلى 35 عاماً، وتنطوي على استغلال لموارد عامة وتحصيل رسوم مباشرة وغير مباشرة من مستخدمي الخدمات العامة، مثل جعالة المرور في حالة استخدام الأوتوستراد السريع، أو ثمن السلعة أو الخدمة في حالة الطاقة والمياه والاتصالات.
ستنفّذ هذه المشاريع استناداً إلى قانون الشراكة مع القطاع الخاص، الذي أقره مجلس النواب في أيلول الماضي، وستُعدّ تلزيماتها تحت إشراف مؤسسة التمويل الدولية (التابعة للبنك الدولي) والدولة الفرنسية (وفق ما أعلنه المندوب الفرنسي، بيار دوكان، في مؤتمر الاستثمار في البنى التحتية المنعقد في بيروت في 6 آذار الماضي)، إضافة إلى المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة الذي يمثل الحكومة كطرف في هذه العقود.
بحسب زياد الحايك، الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة والشراكة، فقد كُلف المجلس مباشرة العمل على ثلاثة مشاريع، هي توسيع مطار رفيق الحريري الدولي، وأوتوستراد خلدة ــ نهر إبراهيم، والمركز الوطني للبيانات. وأوضح أنه سيُستعان بخبراء من مؤسسة التمويل الدولية لوضع مسودات دفاتر الشروط، لتجري بعدها عملية استدراج الشركات المُهتمة، وتأهيلها، والتفاهم معها على صيغة نهائية للعقود قبل إجراء المناقصات وتلزيم المشاريع.
المنلا: عرضنا المشاريع التي تفتح شهية المستثمرين وتدرّ عليهم أرباحاً سهلة


استثمار الدولة لغايات ربحية

لا يخفي معدّو هذه «الخطّة الاستثمارية» أن أحد أهم أهدافها هو تمكين الشركات من استثمار البنية التحتية والخدمات العامة لغايات ربحية، وبالتالي نقل جزء من رأس المال العام إلى رأس المال الخاص وتعميق سيطرته على أصول الدولة ووظائفها.
يوفر قانون الشراكة اللبناني الفرصة لهذه الشركات للانتقال من نظام العقود السابق الذي كان يقتصر على تنفيذ الأشغال وتوفير خدمات إدارة المشروع في مقابل أجر من الدولة، إلى نظام عقود الامتياز الذي يقوم على تنفيذ مشاريع عامة في مقابل الحصول على إيرادات مباشرة من المستخدمين. وهذا المستوى من إحلال القطاع الخاص محل الدولة يسبق غالباً الخصخصة الكاملة المتمثلة ببيع الأصول العامة إلى المستثمرين المحليين أم الأجانب.
إستناداً إلى التجربة المحلية، أسفرت معظم عقود الشراكة، بموجب النظام السابق، عن فشل ذريع، حتى بمفهوم المدافعين عنها، فكيف بقياس نتائجها على صعيد النفع العام؟ ففي ذاكرة المقيمين في لبنان تحضر الشراكة على شكل نماذج سيئة، فاسدة ومكلفة جداً، مِما يعرف بعقود «سوكلين وشقيقاتها» إلى «سوليدير»، مروراً بشركتي الخلوي وشركات مقدمي الخدمات في الكهرباء... فما الذي يدفع الحكومة إلى تقديم هذه الشراكة بوصفها حلاً لا مشكلة؟
يقول نديم المنلا، المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة والمعدّ الرئيس للخطة الاستثمارية، إن «هذا النموذج متبع في الدول التي تعاني من عجز في موازنتها، أي التي لا تملك المال للإنفاق على البنى التحتيّة. لبنان يندرج ضمن هذه الفئة، وحجم الاستثمارات في المرحلتين الأولى والثانية من البرنامج يصل إلى 17 مليار دولار، وهو مبلغ ليس من السهل تأمينه من الخزينة العامة أو القروض، لذا لجأنا إلى الشراكة لجذب القطاع الخاص، واستقطاب التدفقات الاستثمارية الخارجية لتمويل الاقتصاد، بدلاً من الاعتماد على موارد القطاع المصرفي المحلي ومفاقمة العجز في ميزان المدفوعات، فضلاً عن أن القطاع الخاص الأجنبي لديه الخبرة في مشاريع مماثلة وينفذها لاعتبارات تجاريّة بحتة بعيداً من التوظيف السياسي».
من جهته، يشير الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة والشراكة، زياد الحايك، إلى أن «التمويل ليس السبب الأساسي لاعتماد هذا النوع من العقود، بل لأنها خيار تلجأ إليه الدول لتتشارك مخاطر المشاريع مع المستثمر الخاص، ما يحسّن نوعية الخدمة التي يشتريها المواطن. في حين أن العقود في النظام السابق لا تنطوي على تشارك في المخاطر، بل تقتصر على عقود خدمة أو إدارة يؤدّيها القطاع الخاص لمصلحة الدولة، في مقابل بدل، ومن دون تحمّل أي مسؤولية».


تعريف الشراكة = الاحتكار

على موقعه المخصص لعقود الشراكة مع القطاع الخاص، يعرّف البنك الدولي عقود الامتياز أو التنازلات، كما يسميها أحياناً، بأن «القطاع الخاص يكون مسؤولاً عن تشغيل المشروع وصيانة أصوله، وتمويل كل الاستثمارات المطلوبة وإدارتها، وتحمل المخاطر، في مقابل أن يُمنح امتيازاً على أصول موجودة أو يراد إعادة تأهيلها أو توسيعها أو بناؤها، لمدة تراوح بين 25 و30 سنة، أي لفترة تكفي لاستهلاك الاستثمارات الأولية بالكامل قبل إعادتها إلى الدولة، التي تلتزم بدورها تأمين التسهيلات اللازمة، على أن يكون السكان مصدر إيرادات صاحب الامتياز».
يعترف البنك الدولي، في تعريفه لهذا النوع من العقود، بأنها «تنطوي على احتكارات، نتيجة إلزام الدولة بتقديم ضمانات لصاحب الامتياز، تحمي مصالحه من الامتيازات الأخرى التي قد تمنحها، وذلك بهدف محافظته على عائدات مربحة. كما قد ترتب أعباءً على الدولة في الحالات التي لا تغطي فيها الإيرادات المحصّلة من المستخدمين مجمل تكاليف وأرباح صاحب الامتياز، ما يستوجب على الدولة دفعها للمستثمر عبر فرض الضرائب أو الحصول على قروض».
طبعاً، في الحالة اللبنانية الراهنة، لا يُدقَّق بالنتائج المحتملة لإبرام عقود الشراكة بالصيغ المطروحة، وبالتالي لا يجري تجاوز الإنشائيات في الحديث عن الضوابط التي تمنع الاحتكار ورفع أسعار الخدمات أو بقاء المخاطر على عاتق الدولة.
يكتفي المنلا بالإشارة إلى أن «هذه المشاريع اختيرت مع البنك الدولي استناداً إلى ما تتضمّنه من مميزات تجذب القطاع الخاص وتفتح شهيته، أي المشاريع التي تدرّ عليه عائدات أسهل، كالمطارات والأوتوسترادات والمرافئ، أمّا المرافق التي لا تدرّ عائدات مباشرة أو هناك مخاطر في تحصيل عائداتها، فيتطلّب عرضها على القطاع الخاص تقديم ضمانات سياديّة في المقابل، مثلاً في قطاع الكهرباء يجب تقديم ضمانة بأن تدفع الدولة ثمن الطاقة المنتجة للمستثمر، لأن هناك خدمة أساسية يجب توفيرها للمواطن، ولأن أحداً لن يخاطر بالتعامل مع مؤسسة كهرباء لبنان في واقعها الحالي، أو إنتاج الكهرباء دون ضمان تحصيل فواتيرها». ويقول المنلا إن «لكلّ مشروع شروطه ومخاطره، وبالتالي طريقة للتفاوض حوله. هناك مشاريع تتطلّب تدخلاً من الدولة وتقديم الحوافز لتكون أكثر ربحية، ومشاركة المستثمر في المخاطر لتشجيعه على الاستثمار. وهذه الشروط تحدّدها نتائج المفاوضات».
ويوضح الحايك أن «شروط العقد والضمانات التي تقدمها الدولة هي بأهمية السعر نفسه»، نظراً لما يمكن أن تمنح المستثمر من امتيازات تزيد ربحيّته، ويبرر الحايك ذلك بأن «الأموال الخارجيّة لا يمكن استقطابها إلّا من خلال الربحية، والمخاطر القليلة، والقدرة التنافسية، والهيكلية التنظيمية السهلة... أمّا مواجهة سطوة الشركات الكبرى فهي ممكنة عبر الإعلام والقضاء، الذي يمكن المواطن اللجوء إليهما لتحصيل حقوقه»
هكذا إذاً، وباختصار: كل الضمانات للمستثمر، أما المتضررون فعليهم الإعلام والقضاء.


40%

من مشاريع البنى التحتية، ستتنفّذ عبر عقود الشراكة مع الفطاع الخاص