برزت قضية الأجر والعمل المأجور، بوضوح، في لبنان خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بفعل تضافر عوامل عدّة، أهمّها: تسارع النمو الرأسمالي وتلازمه مع هجرة سكان الأرياف إلى ضواحي المدن طلباً للعمل، واتجاه نسبة العاملين بأجر نحو الارتفاع، وخصوصاً في القطاع الصناعي، فضلاً عن اتساع المدّ اليساري والديمقراطي في تلك الحقبة، تزامناً مع تنامي التحركات المطلبية والنقابية (ارتفاع عدد الإضرابات العمالية الجزئية والعامة، ومتوسط عدد أيام الإضراب، وأعداد العمال المضربين...).وفي النصف الأوّل من السبعينيات، سجّلت الحركة الاحتجاجية والإضرابية ذروتها حول مسألة الأجر والتقديمات، إذ تحقّقت ثلاثة إضرابات عمالية عامة في غضون خمس سنوات بين عام 1970 وعام 1975، بينما لم يتحقّق إلّا إضراب عام واحد خلال ربع قرن بين عام 1946 (تاريخ صدور قانون العمل) وعام 1970. ونجحت الحركة النقابية في الحفاظ نسبياً على القوة الشرائية للأجر آنذاك، في وقت كان فيه التضخم يعصف بغالبية دول العالم، بما فيها لبنان الذي كان يستورد معظم احتياجاته من هذه الدول، والذي كانت أسواقه، إضافة إلى ذلك، تخضع لسيطرة بنى احتكارية.

انخفاض الأجر الفعلي في الحرب

مع تفجّر الحرب الأهلية وما رافقها من دمار اقتصادي شامل وتحوّلات اجتماعية عميقة، ضعفت المقوّمات الموضوعية والذاتية للدفاع عن قضية الأجور وشروط العمل المأجور، وسط انهيار السلطة المركزية وتقطّع أوصال الفضاء الاقتصادي والاجتماعي الوطني وغلبة سمات اقتصاد الحرب على بنى الإنتاج والإنفاق ومصادر تشكّل الدخل. وبالرغم من أن هذه الحقبة شهدت أحياناً إقرار أكثر من تصحيح للأجور في السنة الواحدة (أعوام 1987 و1988 و1991مثلاً)، إلّا أن الارتفاع القياسي في معدلات التضخم خلال الثمانينيات أفضى إلى انخفاض حاد في مستوى الأجر الفعلي، سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص، بسبب تجاوز المعدّل الوسطي لارتفاع الأسعار عتبة 110% سنوياً ما بين عام 1984 وعام 1994 (و505% عام 1987 وحده!).
وفيما كان يتوقّع أن يجري التعويض عن هذا التراجع في الأجر بعد انتهاء الحرب الأهلية في مطلع التسعينيات، إلّا أن هذا المسار لم يتحقّق لأسباب عدّة مترابطة، بعضها موضوعي وبعضها الآخر ذو صلة بقرار السلطة السياسية، نذكر منها: اتجاه النموذج الاقتصادي الريعي نحو الترسّخ التدريجي وسط تعاظم ظواهر التورّم المالي والاستيراد الاستهلاكي والفقاعات العقارية وتضافرها، وانخفاض وزن القطاعين الصناعي والزراعي في النشاط الاقتصادي إلى نحو نصف ما كان عليه في أواسط السبعينيات، مع التراجع الملحوظ في نسبة العمال والعاملين في هذين القطاعين، وتعاقب طفرات الارتفاع في عدد المؤسسات الصغيرة والمتناهية الصغر، التي تزامنت أيضاً مع تزايد نسبة العاملين لحسابهم، الأمر الذي حدّ على نطاق واسع من تنامي وزن الطبقة العاملة والعمل المأجور (بخلاف ما تحقّق في التجارب الرأسمالية الكلاسيكية).
والأهم من ذلك، هو سطو التحالف الحاكم على استقلالية الحركة النقابية، وخصوصاً خلال حقبة «الزواج السوري - اللبناني»، التي شهدت تفريخ الاتحادات النقابية في مصلحة القوى الطبقية والطائفية الوافدة إلى الحكم، ما حوّل هذه الحركة إلى جهاز فوقي في أيدي الحكام الجدد، وحال دون اضطلاعها بمهماتها في الدفاع عن مصالح العمال.
متوسط الأجر لدى الشطور العليا في الدولة بات يتجاوز فعلياً 30 أو 40 ضعف الحد الأدنى للأجر


مسألة الأجور بعد عام 1996

إن مجرّد النظر إلى سياسة الحكومات المتعاقبة من مسألة الأجور بعد عام 1996 يعبّر أفضل تعبير عن المندرجات التي تمخّضت عن تفاعل هذه العوامل المتعاضدة. فقد أقرّت الدولة ثلاثة تعديلات على الأجر منذ 1996: الأول في شكل سلفة مقطوعة بقيمة 200 ألف ل. ل. عام 2008 استفاد منها (مبدئياً) الأجراء والموظّفون النظاميون في القطاعين العام والخاص، والثاني في شكل زيادة غلاء معيشة عام 2012 استفاد منها أيضاً هؤلاء، والثالث في شكل سلسلة جديدة للرتب والرواتب عام 2017، اقتصر تطبيقها على أجراء الدولة وموظّفيها فقط. وبحسب تقدير أوّلي، بلغ متوسط الزيادة الاسمية في أجر العاملين في القطاع العام نحو 100% منذ عام 1996 (مع تفاوت هذه النسبة بحسب السلك والرتبة ونوع الصيغة التعاقدية)، بينما لم يتجاوز هذا المتوسّط 50% أو 60% لأجراء القطاع الخاص وموظّفيه، في وقت تجاوز فيه الارتفاع التراكمي للأسعار منذ عام 1996 ولغاية عام 2017 عتبة 130% (بحسب مؤشّر «مؤسسة البحوث والاستشارات»). وهذا الواقع يستدعي تسجيل عدد من الاستنتاجات والملاحظات، أهمها الآتي:
- إن تصحيحات الأجور المذكورة أعلاه طبّقت أساساً على الأجراء والموظّفين المصرّح عنهم بنحو نظامي، وهي لم تشمل عموماً الأجراء غير النظاميين في القطاع الخاص الذين مالت نسبتهم نحو الارتفاع خلال العقدين المنصرمين، وباتوا يشكّلون بحسب الدراسات المتاحة راهناً ما بين 40% و50% من إجمالي عدد العمال والأجراء في القطاع الخاص. ما يحمل على الاعتقاد أن نحو نصف إجمالي الأجراء، ومعظمهم غير نظاميين، باتوا يعيشون راهناً تحت عتبة الخط الأعلى للفقر بسبب التردّي التراكمي في قوتهم الشرائية كنتيجة لعدم شمولهم في أغلب الأحيان بتصحيحات الأجور الرسمية المقرّة.
- إن الفوارق القطاعية في مسار تصحيح الأجور، خصوصاً بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب عام 2017، قد جعلت متوسط الأجر الفعلي في القطاع العام يتجاوز مثيله في القطاع الخاص النظامي، مع العلم أن المعطيات المتاحة (البنك الدولي) تؤكّد أن متوسط إنتاجية العمل في القطاع الخاص يزيد بكثير عن مستواه في القطاع الحكومي، بسبب السياسة العامة للتشغيل وحرص القوى الحاكمة على توظيفها لأغراض زبائنية وطائفية. وتزداد الفوارق بين القطاعين في شكل حاد، بل خطير، عند مقارنة فعالية أنظمة التقاعد والحماية الصحية في كلّ منهما: المعاش التقاعدي والتغطية الصحية بعد التقاعد للعاملين في القطاع العام مقابل تعويضات نهاية خدمة فقط لأجراء القطاع الخاص، ووعود غير واضحة المعالم لتوفير التغطية الصحية للذين سيتقاعدون منهم راهناً. ويطرح هذا الواقع الخاضع لمنطقين متباينين «أسئلة وجودية» عن مندرجات هذا النمط اللبناني من الليبرالية الاقتصادية على قضايا الطبقة العاملة عموماً.
- إن هذه الفجوة القطاعية في الأجور والتقديمات تنطوي على مخاطر جمّة، أهمّها ازدياد مختلف أشكال الضغوط التي تمارسها القاعدة الزبائنية الطائفية على زعاماتها السياسية المتنفذّة كي تواصل هذه الأخيرة، على غرار ما فعلته بثبات وبصيغ ملتوية منذ أكثر من عقدين، إدخال المزيد من العاملين إلى القطاع العام بصرف النظر عن مدى الحاجة إليهم وعن حجم الخلل الذي يعتمل في إنتاجية عملهم المرتقبة، في وقت يستمرّ فيه التفاقم الاستثنائي في كافة مؤشّرات الوضعين المالي والنقدي بحسب ما تؤكّده كافة المؤشرات المتاحة، وأحدثها ما صدر أخيراً من تنبيهات وتحذيرات عن صندوق النقد الدولي.
- أكثر من ذلك، إن التباين في تطور الأجر الوسطي بحسب القطاعين يتزامن أيضاً مع مؤشرات عن ازدياد الهوّة بين الحدّين الأدنى والأعلى للأجر في كلّ منهما. وإذا كان الفارق بين هذين الحدّين في القطاع الخاص قد تميّز تاريخياً بمستواه المرتفع جدّاً وغير الخاضع لأيّ ضوابط، فإنه يلاحظ أن متوسط الأجر لدى الشطور العليا من العاملين في الدولة (خصوصاً المديرين في المؤسسات العامة والمصالح المستقلة، والمديرين في مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف ومجلس الإنماء والإعمار والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فضلاً بالطبع عن كبار الضبّاط وكلفة تقاعدهم الاستثنائية الارتفاع في المقاييس الدولية... إلخ)قد بات يتجاوز فعلياً 30 أو 40 ضعف الحد الأدنى الرسمي للأجر، مع لفت النظر إلى أن هذه الفجوة لا تزيد على عشرة أضعاف في معظم الدول المتقدمة، وأبرز مثال على ذلك فرنسا (نحو 9,3 أضعاف).


الاستهدافات الأساسية المتدرجة

في اختصار، إن بنية الأجور في لبنان، وهو بلد يتميّز بالتركّز الشديد للدخل والثروة، بحسب ما أكّده العديد من الدراسات الدولية المنفّذة أخيراً، هي بنية تعتمل فيها الاختلالات والتشوّهات على غير صعيد، وأيّ مقاربة كلّية للنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلد لا يمكنها المضيّ في ممارسة التجاهل والترقيع حيال هذا الواقع المنتج لعدم الاستقرار في المدى المتوسّط والبعيد. وتقتضي مسارات المعالجة ضرورة توجيه السياسات العامة بنحو متدرّج ــ كما فعلت الدول التي سبقتنا ــ نحو الاستهدافات الأساسية الآتية: زيادة التصريح النظامي عن الأجراء في القطاع الخاص، والتزام التصحيحات الدورية للأجور في القطاعين، وتحصين الأجر بشبكة فعلية من التقديمات ليصبح الأجر أجراً اجتماعياً، وتعزيز وزن الكتلة الإجمالية للأجور في الناتج المحلّي، وصولاً إلى إقرار نظام للتقاعد في القطاع الخاص يحمي، بطابعه التوزيعي، الفئات الفقيرة والمتوسطة من الطبقة العاملة.




بالأرقام

100%

هو متوسط الزيادة الاسمية في أجر العاملين في القطاع العام منذ عام 1996، بينما لم يتجاوز هذا المتوسّط 50% أو 60% لأجراء القطاع الخاص وموظّفيه

130%

هي نسبة الارتفاع التراكمي للأسعار منذ عام 1996 ولغاية عام 2017، بحسب مؤشّر «مؤسسة البحوث والاستشارات»

50%

من إجمالي الأجراء، ومعظمهم غير نظاميين، باتوا يعيشون راهناً تحت عتبة الخط الأعلى للفقر