بالاستناد إلى حسابات وزارة المال، أنفقت الحكومة اللبنانية منذ عام 1993 أكثر من 216 مليار دولار. فقد ازداد الإنفاق العام 12 مرّة تقريباً في 25 سنة، فيما تضاعف حجم الاقتصاد المحلي 10 مرّات فقط. وفي جميع هذه السنوات، ظل الإنفاق الحكومي يساوي تقريباً ربع الناتج المحلي وأكثر.في ظل الأيديولوجيا الليبرالية المهيمنة، يعدّ هذا الحجم من الإنفاق العام مرتفعاً قياساً إلى حجم الاقتصاد في لبنان ونوعه. وكان يُفترض أن يترك هذا الحجم من الانفاق آثاراً إيجابية كثيرة على مستوى معيشة السكان. إلا أن الأدلة في الواقع اللبناني تشير إلى عكس ذلك تماماً، فهذا الإنفاق، كما جرى توزيعه على مدى 25 عاماً، ساهم مساهمة كبيرة جداً، إلى جانب آليات النظام الرأسمالي الأصلية، في زيادة حدّة التفاوتات في المجتمع اللبناني، حتى أصبح لبنان "مصنّفاً ضمن الدول التي تسجّل أعلى مستويات تفاوت الدخل وانعدام المساواة في العالم".

أين ذهب الإنفاق العام إذاً؟

تبين حسابات وزارة المال المجمّعة أن 77 مليار دولار، أو 35.6% من مجمل الإنفاق العام، تم تخصيصها لخدمة الدين العام، وجرت إعادة توزيعها عبر الدائنين، من فئات الدخل الأدنى (عدم عدالة النظام الضريبي) إلى فئات الدخل الأعلى (الفوائد لكبار المودعين ورساميل المصارف). وعلى الرغم من أن هذه الحسابات لا تشمل مدفوعات الفوائد خارج الموازنة العامة، إلا أنها كافية لإثبات أن الأزمة المالية الحالية، التي يجري التبشير باقتراب موعد انفجارها، سببها الإنفاق على الأثرياء لا على الفقراء، وسببها أيضاً الإنفاق على القطاع الخاص لا على القطاع العام.
لقد ارتفع الدين العام الحكومي (من دون ديون مصرف لبنان والمؤسسات العامة الأخرى) من 2.5 مليار دولار في عام 1992 إلى 79.5 مليار دولار في عام 2017. أي بزيادة 77 مليار دولار، وهي قيمة مساوية لقيمة خدمة هذا الدين، وهذه المصادفة تدعم فرضية أن الدين اللبناني صنعه الدين نفسه لا الإنفاق العام بمعناه السياسي، ولا الإنفاق على الأجور والكهرباء. كما تعبّر عن مقولة "تمويل الدين بالدين"، أي إن زيادة الإنفاق على خدمة الدين يتم تمويلها بزيادة الدين نفسه.
تسمح الحسابات المجمّعة للمالية العامّة برسم صورة مكثّفة وموجزة عن بنية الإنفاق العام ومآلاته بين عامي 1993 و2017. ففي حين انطلقت هذه المرحلة من سياسة إنفاق توسعية، بحجة إعادة الإعمار بعد الحرب و"شراء السلم الأهلي بالمال العام"، انتهت إلى سياسات تقشفية قاسية طالت كل وظائف الدولة (ولا سيما تجميد الأجور والاستثمارات)، ما عدا وظيفتين تنامى حجمهما واستحوذتا على أكثر من 85% من مجمل الإنفاق العام، واحدة ريعية، يجسدها وزن الفوائد والإيجارات ودعم القطاع الخاص والأسعار المرتفع جدّاً في الموازنة، وثانية يغلب عليها النمط الزبائني، أو إعادة التوزيع لصالح ما يسمّى "الطبقة السياسية"، ويجسدها التراجع الكبير في مستوى الخدمة العامة وإنتاجية الوظيفة العامة في مقابل تنامي حصة الأجور والرواتب والتحويلات للقطاعين العام والخاص والمجتمع المدني ودعم الكهرباء... واستحوذت هذه الوظيفة على نصف الإنفاق العام تقريباً. في المقابل، تراجعت حصة الإنفاق الاستثماري (على البنية التحتية تحديداً وصيانتها) من 21% في حقبة 1993- 1997 إلى 4% فقط في الحقبة الأخيرة (2006-2017)، ولم يتبق لتشغيل الدولة سوى 6% من مجمل الإنفاق العام.
لقد سدد المقيمون في لبنان في هذه الفترة (1993- 2017) نحو 144 مليار دولار (مجموع إيرادات الخزينة العامّة) من دخلهم واستهلاكهم لتمويل إنفاق الدولة، في ظل نظام ضريبي يوصف أنه جنّة للأثرياء، ما يعني أن خدمة الدين العام وحدها استنفدت نصف هذه الإيرادات، في حين أن باقي الإنفاق كله، بما فيه الإنفاق الزبائني وكل ما يسمى هدراً وعمولات واختلاسات، بلغ 139 مليار دولار. بالمعنى المجازي، ما تم تسديده للدولة طيلة 25 عاماً كان كافياً لتمويل إنفاقها العام، بل وتحقيق فائض بقيمة 5 مليارات دولار، لولا الفوائد المتراكمة على ديون الحكومة.
ماذا يعني ذلك؟ يعني، ببساطة، أن كل كلام يدور الآن عن الحاجة إلى تخفيض الإنفاق العام ولا يبدأ من تخفيض الفوائد وحصتها من الموازنة وزيادة الإيرادات الضريبية المباشرة، هو كلام يريد مجدداً أن يحمّل الخاسرين كلفة تمويل المزيد من المكاسب للرابحين.
تصميم سنان عيسى