أشكرا

كان يا ما كان في قديم الزمان، نكتة تقول: لبناني جوعان كتير، نبش تنكة زبالة وصار يشيل وياكل ويشيل وياكل حتى وصل الى قاع التنكة فوجد فيها شعرة، فأشاح بوجهه بقرف وهو يقول: تفه!
تلخص هذه النكتة ما حصل في الانتخابات البلدية في موضوع الرشى الانتخابية.
يقول الخبر إن أجهزة أمن الدولة اللبنانية قامت بإيقاف المتورط بإعطاء رشى في جونية والذي عرضت صورته على التلفزيونات.كما قامت بتوقيف ثمانية اشخاص في مناطق متفرقة.

الخبر مضحك مبك. أكاد أجزم بأن ثلث المتفرجين من اللبنانيين الذين يحق لهم الانتخاب، كانوا يضحكون من هذا الخبر وهم يتحسسون أوراق النقد التي كسبوها في الدورتين الانتخابيتين الأخيرتين.
فالانتخابات أصبحت منذ زمن بعيد مناسبة «مواطنية» لنشل ما تيسر من مافيات السلطة التي تحكمنا دون قدرة على الخلاص منها، نوعاً من «شعرة من قفا الخنزير بركة».

هكذا، أصبحت الرشوة: عيني عينك. لم تعد تتم تحت الطاولات، أو بالمواد العينية (تذكرون تنكات الزيت الحريرية في بيروت؟)، صارت نوعاً من إعاشة موسمية متفاهم عليها، ولها بورصتها وأسعارها التي تتحكم بها قوانين العرض والطلب كأي سلعة. إعاشة يلقمها المرشحون لمنصب رسمي لا يمكن الوصول إليه إلا بالانتخاب، لمواطنين مجوعين، محاصرين بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الناجمة عن تولية هؤلاء تحديداً مقاليد البلاد.
أصبحت الرشوة الانتخابية تتم «أشكرا». وهي مفردة تفيد: الوقاحة في ارتكاب الجرم. لا بل إنها أصبحت مطلوبة.
كان المواطن «يقبل» اللعبة، محتجاً باليأس من التغيير لقبول الرشوة الانتخابية، إلا أنه اليوم، ومع غياب القمع الحقيقي لها، أصبح يسعى الى تلك الرشوة علانية ويفاوض على سعر سلعته الموسمية التي أتاحتها له الديموقراطية: أي صوته. كان المقاول أو المرتشي إذا شاهد عدسة كاميرا، يهجم على المصور كي لا تنشر صورته، أما اليوم، فقد شاهدنا على النشرات الإخبارية عمليات رشوة فوق الطاولة، وعمليات قمع «فولكلورية» من نوع تلك التي قامت بها في جونية شعبة الاستقصاء. المهم أنها بالمحصلة فولكلورية، ليس لأن الأجهزة غير جدية، بل لأنها منتشرة بشكل يفوق محاولات القمع، فكيف إن لم تكن هناك نية حقيقية بالقمع كما أثبتت الوقائع؟ فهذا الشخص الذي قبض عليه، من أعطاه الأمر؟ ومن أعطاه المال؟ والذين كانوا في شقة فتوش في زحلة يديرون عمليات الرشوة، من اعطاهم تلك المبالغ، والأهم الأمر؟
لم يخف بعض المرشحين الذين نجحوا والذين سقطوا، أنهم دفعوا أموالاً طائلة. لا بل إن التداول بالأسعار، وبكلفة الانتخابات على المرشحين وكمية الإنفاق «الانتخابي» صار سيرة الناس ودليلاً على حماوة هذا «العرس الديموقراطي» حيث تتم الرشوة بكل شفافية،
ويطالب بها الناخبون إذا ما تأخر الدفع، لا بل إنهم ينظمون تظاهرة لتعجيل القبض كما حصل أمام مبنى منسقية تيار المستقبل في قصقص، حيث قام الحريري بإصدار بيان يطمئن فيه هؤلاء بأنه «سيحاسب كل من تسبب بهذا «الإشكال» مع جمهوره». فعلق أحد المرتشين الذين لم يقبضوا «إيه حاسبنا بالأول».
قبضتم على مقاول الرشى في جونية؟ متى ستقبضون على المر والحبيش والفتوش والسكاف؟ و«جايينكم بالحديث» في الجنوب والعكار؟
لا أحد يبرر الرشى لو كانت الديموقراطية هي فعلاً السائدة ولو بغلبة واحد بالمئة في لبنان. لكن عندما تكون شكلية الى هذا الحد، فمن يلام؟ ما الذي يمكن أن نفعله؟
بدأنا المقالة بنكتة، فلننها بقصة معبرة من كليلة ودمنة. زعموا أن ساحرة دخلت قرية في الظلام وألقت في البئر التي يشرب منها الناس تعويذة جعلت كل من يشرب منها يجنّ. في اليوم التالي، شرب الناس وجنّوا إلا الملك والوزير. فأخذ الناس يقولون: لقد جن الملك والوزير. فاحتار الملك: أنشرب من البئر لنصبح مثل الآخرين، أم لا نشرب ونحتفظ بعقولنا؟
السؤال نفسه نكاد نسأله لأنفسنا. فحين تصبح الأغلبية الساحقة فاسدة، هل يبقى من معنى لبقائنا صالحين؟ ربما كان الجواب على هذا السؤال ما جعل نسبة التصويت في بيروت لا تتعدى العشرين بالمئة.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم