يوم السردين السعيد

تبنّيت قططاً صغيرة رماها غليظ قلب ما في المرأب الواقع تحت شرفتي تماماً. مات أحد الجراء الأربعة، وتبنت ابنة أصدقائي واحداً آخر، وبقي لديّ هرتان صغيرتان. المهم، بعد فترة الإرضاع بالبيبرونة، كون الصغار لم يكونوا يعرفون بعد كيف يلعقون الحليب من الوعاء، قلت في نفسي سأطعمهما سرديناً... لنر. ما إن فتحت علبة السردين وفاحت الرائحة حتى بدأتا بالمواء. وما إن وضعت السمكتين الآتيتين من المحيط الأطلسي والمكبوستين بالزيت المغربي أمامهما، حتى مسحت الهرتان الصغيرتان الصحن مسحاً. ثم، مكثتا طويلاً تلعقان فمهما بلسانهما الأحمر الصغير.

كانتا سعيدتين لدرجة مضحكة، تلك السعادة التي لو كانت لبشريّ لاغرورقت عيناه بالدموع مثلاً! وبعدما تلمّظتا جيداً أخذت إحداهما تلعق أختها علامة الهناء والسرور. كأن فيضاً من السعادة اجتاح كيانها المنتشي بطعم السردين المكتشف للتو، في حين كانت الأخرى لا تزال "تمصمص شفتيها" إن جاز التعبير. ثم قفزتا إلى الأرض وتعاركتا عابثتين لهنيهة تحت قدمي، ليفيض بهما الهناء أو ربما الامتنان لوضعي الطبق المناسب أمامهما، فتقترب إحداهما، التي سميتها "فارة" لحشريتها، من قدمي وتلعق خفّي المنزلي، فتنضم اليها الأخرى وهي تنظر إليّ، ثم تتسلقان مخمل الكنبة لتستقر إحداهما على كتفي وهي تلعق خدي، في حين غفت الأخرى في حضني مقرقرة بسعادة.

****
انتخب الشيوعيون حنا غريب أميناً عاماً للحزب الشيوعي بعدما حصد المعارضون في الحزب سبعين بالمئة من مقاعد مندوبي المناطق، أي النواب بلغة المواطنين في نظام برلماني. لم أكن مهيأة لهذا الخبر السعيد. فمن باب الدفاع عن النفس، وكنوع من عدّة التعود على بلدنا الخربان، المنخور بالفساد، الرث، المهلهل، كنت قد أصبحت ميالة (بقرار) الى التشاؤم، وترجيح الأسوأ دائماً اتقاءً لخيبة الأمل. لذا وقع عليّ الخبر السعيد وقوع... اكتشاف لذة السردين على هرتَيّ الصغيرتين. اي لذة شيء يحدث للمرة الأولى.
هكذا، تجمدت امام مرآة المغسلة وأنا أنظف أسناني، وفمي ملآن بالرغوة. ثم سارعت الى الراديو لأرفع الصوت قليلاً لأتأكد. ثم حدث لي ما حدث للهرتين، تنطّطت وحدي في الصالون من الفرح، ثم سارعت الى الجريدة ألتقطها من أمام بابي وأفتحها لأتلذذ بالتفاصيل. ثم فتحت على إذاعة «صوت الشعب»، واستمعت الى الأخبار، وأنا أكاد ألعق الراديو من شدة السرور، فقد تابعت لسنتين نضال القاعدة الحزبية الذي أثمر أخيراً هذا الخبر الفريد في يومياتنا الوسخة، عن رجل مناسب وضع، لمرة، في المكان المناسب.
وحين شاهدت الصورة الجميلة التي يقبّل فيها خالد حدادة الأمين العام السابق، حنا غريب الأمين الجديد، مهنئاً، انتابني نوع من الهناء لم أحس فيه منذ زمن بعيد، فكادت دموعي تفرّ من عيني. نوع من الامتنان لمن قاموا بهذا العمل الاستثنائي، ولكن بالرغم من كل شيء، المنتظر، في صحراء أخبارنا الأشبه بيوميات بلّوعة فاضت في غياب أصحاب المنزل.
ما أسعد الهرة تكتشف السردين للمرة الأولى. ما أسعدنا نكتشف انه بإمكاننا، وعلي الرغم من كل شيء يشير الى العكس، وضع الرجل المناسب في المكان المناسب للمرة الأولى. فعلاً؟ يامي يامممم...!!!

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم