يتحلق مجموعة من الشبان حول رفيقهم الذي سيتزوج في اليوم التالي في أحد زوايا حمام العبد في طرابلس. يؤكدون أن هذا الأمر تحوّل إلى عادة بالنسبة إليهم يمارسونها. «كلّما قرّر شاب الزواج، عليه أن يمرّ بمرحلة إلزامية هي الحمام العربي». والسبب أنه «يريح الجسد من التعب والأوجاع ويخرج منه السموم، وهو مناسبة لتذكر التقاليد القديمة». إذ يترافق الحمام مع إحياء حفلة متواضعة تنطلق خلالها الأغاني القديمة إحتفالاً بالعريس.
زوّار آخرون يقصدون الحمام لأسباب مختلفة، مثل الشاب البيروتي، المقيم في برج حمود، لكنه يحرص على زيارة الحمام بصورة دورية «لأنه أرخص من غيره، ونظيف، ولا يزال يحافظ على الطراز القديم. مقابل عشرين ألف تحصل على الكثير من الخدمات الجيدة».
كثيرون لا يعرفون أن حمام العبد، الكائن في منطقة الأسواق القديمة في طرابلس، لا يزال يعمل. إذ يقصده البعض للاطلاع على عمارته أو محاولة اكتشاف ماضي قريب، فيفاجأون بأنه لا يزال يستقبل الباحثين عن الراحة والاستجمام بين جنباته، على الرغم من مرور نحو 500 سنة على إنشائه في العهد المملوكي، فيما يستثمره اليوم أحمد بيرقدار. وهو يشتهر بطابعه الأثري وبنائه الحجري. اكتسب لونه الداكن عبر السنين، ويتميز بالقبب التي تعلو سقفه والتي تزينها ثريات نحاسية نفيسة . ولحمام العبد ثلاثة مداخل تطل على ثلاثة أسواق هي سوق الصاغة، سوق الكندرجية وسوق البازركان. ويشكل البهو الرئيسي مكاناً جميلاً يستريح فيه المستحم على الأريكة.

مراحل الحمام

قبل ذلك، على المستحمّ أن يمرّ بعدة مراحل، تبدأ من «البراني»، حيث يخلع ملابسه ليستبدلها بعدد من المناشف التي يلفها على جسده قبل دخوله إلى الحمام. بعد المرور بردهة معتدلة الحرارة، يصل المستجم إلى الأجران المملوءة بالماء الساخن، والتي يوضع الى جانبها «طاسات» معدنية لسكب الماء، بعد الاستحمام. بعدها ينتقل إلى غرفة البخار، حيث يجلس لفترة زمنية كافية، يتصبّب خلالها من العرق فتخرج السموم من جسمه. ويشير القيّمون على الحمام أن هذه المرحلة ضرورية لتنظيف الجسم بالكامل في المراحل اللاحقة. تبدأ عندها عملية «التكييس»، التي ينطرح فيها المستجم أرضاً ليتولى عامل الحمام فركه على مرحلتين، المرحلة الأولى يضع المكيّس بيده «كف» أسود وخشن ويملأه بالصابون، وثم يبدأ بفرك الجسم بشدة لإخراج الجلد الميت، والأدران الموجودة على الجسم، ثم يسكب عليه الماء الحار، ليبدأ بالمرحلة الثانية من الفرك بكف ناعم .
بعد الانتهاء من التكييس، ينتقل المستجم الى غرفة التدليك، الذي لا يخلو من بعض الحركات الشديدة والتي يؤكد العامل انها ضرورية، ليصل الزبون في نهايتها الى الارتخاء التام، وعند ذلك نكون امام خيارين اما التوقف، او الاستمرار بالتدليك ولكن مقابل تكلفة إضافية.

انحسر عدد السياح العرب والأجانب بسبب الأوضاع الأمنية


عند نهاية التدليك، يعطي العامل في الداخل المستجم صابونة وليفة كروية الشكل، يختار بعدها بين دخول غرفة الـ»سونا» وبين عدمه. وفي نهاية المراحل، يعود المستجم للإستحمام مجدداً، ومن ثم يقوم العمال بلفه بثلاثة مناشف مختلفة، قبل العودة مجدداً إلى البراني حيث يكون في انتظاره النرجيلة، والشراب الساخن.
يؤكد مصطفى، أحد المشرفين على العمل داخل الحمام أنه لم يطرأ أي تعديل على طرق الاستحمام «كما أننا لا نستعمل الزيوت العطرية أو الأقنعة وغيرها، كنا نستعمل فقط رمل البحر الميت المغذي»، مضيفاً أن «الجلوس في غرفة البخار والتكييس بعده كاف لإزالة الجلد ميت أو أي رواسب». وعن الوقت الذي يجب أن يفصل الحمام عن الآخر يقول «يفضل القيام به مرة واحدة في الأسبوع».

النظام

يتمتع نظام الحمام بعدة مواصفات، ويعمل فيه أكثرية من السوريين الذين تمرّسوا على العمل في بلادهم قبل قدومهم الى لبنان. أبو راشد الذي يعمل في التكييس يمتلك خبرة خمسة وثلاثين سنة في هذا المجال، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المدلّك زيدان الذي تعلم التدليك في حلب على يد مختص. واللافت أن هؤلاء العمال لا يتمتعون براتب ثابت، فالدخل يعتمد على عدد الزبائن وكذلك الاكراميات والبخشيش، لذلك تأثر دخلهم الى حد كبير مع تراجع مرتادي الحمامات الشعبية خلال الأحداث الأمنية التي شهدتها المدينة.
ويؤكد القيمون على الحمام أن وضعه مثل وضع البلد، فالحمام بالنهاية موقع أثري والدخول إليه متاح للجميع وبالتالي يتأثر بعدد زوار المدينة. ويضيف «كان يزورنا عدد كبير من السياح العرب والخليجيين والأجانب، فمشهد الحمام جذاب جداً للأوروبيين الذي ينظرون اليه كجزء من التراث الشرقي، ولكن إنحسر عددهم بسبب الأوضاع في البلد». ويذكر أن عدداً كبيراً من الفنانات صوّرن أغانيهنّ فيه مثل نجوى كرم، «كذلك جرى تصوير أحد مشاهد أبو شهاب في مسلسل باب الحارة».

عقبات التجديد

ويقول مصطفى أن للحمام زبائنه الخاصين، وهناك من يأتي بصورة دورية. تساهم حفلات العزف والغناء الشرقي والسحور الرمضاني، التي تنظّم في المكان، في جذب الكثير من المواطنين إلى المكان وإعادة إحياء أجواء الحمام القديمة. لكن اللافت ان الحمام لم يشهد أي أعمال ترميم منذ ثلاثين سنة. وتبرر الإدارة الأمر بالقول إنه «عندما نطالب بترميم أي قسم يواجهنا الروتين والتعقيدات، ونضيع بين دائرة الأوقاف ومديرية الآثار والبلدية ووزارة الثقافة والسياحة، كل جهة تلقي عبء المسؤولية على الأخرى». هذا ما حرم العديد من الحمامات من فرصة العودة إلى الحياة علماً أن «هناك عدة حمامات في طرابلس أجمل وأوسع من الحمام الذي نستعمله أقفلت وحاولنا استثمار أحدها وقوبلنا بالرفض».

مواعيد للسيدات

يشير القيمون على الحمام أنه «في الماضي كان يتم تخصيص يوم الإثنين للسيدات ، أما اليوم أصبح عليهن الحجز مسبقاً، وهناك فريق خاص بهم حيث يتم اخراج الجميع واقفال الأبواب». وتذكر إحدى السيدات الكبيرات في السن أنه في الماضي كانت جمعات الأصدقاء والرفيقات تتم دائماً فيه، وكانت الدعوة الى الحمام بمثابة
التكريم.