جميل الرائحة، طيب الطعم، مفيد للصحة. هذه بعض الصفات التي يذكرها أهالي القرى اللبنانية عند حديثهم عن ماء الزهر والورد. فهذا «الأكسير السحري»، هو جزء من عاداتهم وتقاليدهم، والذي لا يمكن أن يغيب عن أي بيت شرقي. لذلك لا تزال النسوة الكبيرات في السن يحرصن على إعداده في منازلهن وفق الطريقة التقليدية حتى اليوم، ويحتسبن الأيام والأشهر بانتظار دفء الربيع لتتفتح زهور الليمون والزفير والورد البلدي.
في أحد حقول الضنية، يجمع أحد المزارعين أبناءه لقطاف الورد مردداً أغنية «بكام الورد يا معلم». يؤكد أن تقطيف الورد يبعث على الطمأنينة وراحة الأعصاب، «فأنت تتعامل مع كائن لطيف ورائحته جميلة».
وعلى خلاف الأعوام السابقة، لم يتعرض السوق للإغراق، وذلك بفعل عدم دخول الزهر السوري المهرّب إلا بكميات ضئيلة، وكذلك تأثير تقلّبات الطقس التي أدّت إلى تضرّر جزء من الإنتاج. ورغم ارتفاع الأسعار، لم يتأثر الطلب عليه، وتؤكد إحدى السيدات أنها مضطرة إلى شرائه مهما كان الثمن.
تعدّ سعاد، ابنة الخامسة والسبعين عاماً، ماء الزهر والورد منذ ما يقارب النصف قرن. وتروي أنها تعلمت صناعة ماء الورد وماء الزهر «منذ أكثر من خمس وأربعين سنة على يد سيدة من آل الحلاب». وعن كيفية إعداده، تقول إنها تقوم بحجز الورد والزهر من الجرد قبل فترة من الزمن، لأن «موسمه قصير ومحصوله أيضاً، ولم يعد هناك الكثير من المزارعين الذين يزرعونه»، لافتة إلى أن «إنتاج القطفة الأولى يعطي نتيجة مميزة». وعن مواعيد التقطير، تخبرنا أن «شهر أيارهو موسم ماء الورد ، أما ماء الزهر ففي أواخر آذار».
لكن كيف يصنع ماء الورد؟
تقول السيدة السبعينية «بدايةً، نضع الزهر في الطنجرة النحاسية الخاصة، ومن ثم نسكب فوق الزهر ألفيّتين ونصف من الماء، بعد ذلك نضع الكركة، أي آلة التقطير، من فوقها، ونقوم بتطيينها، أي وضع عجينة مكونة من طحين ورماد وماء على المكان الفاصل بين الطنجرة والكركة». وبعد إحكام إغلاق الكركة، يوضع الماء في المكان المخصص له من فوق، وتوضع «أَلفية» الزجاج تحت قطارة الكركة ليتم تجميع ماء الورد فيها.
وتنصح السيدة بوضع ماء الزهر والورد على نار خفيفة، لكي لا يتأذى أو يحترق «وكلما سخن الماء، يجب رميه ووضع ماء بارد مكانه في أعلى الكركة، لأنه إذا تأخرنا عليه وسخنت الماء عليه، يحترق الورد».
وعن الفترة التي يحتاجها لبدء التقطير، تجيب أنه «بعد ساعة ونصف، ويحتاج ماء الزهر قرابة سبع ساعات على النار تقريباً، أما ماء الورد فيوضع قرابة العشر ساعات». بعد التقطير «يوضع ماء الزهر بالشمس لمدة أربعين يوماً، أما ماء الورد فيوضع في خزانة مظلمة، لأن ماء الورد لا يحتاج الى أشعة الشمس».
لا تكف سعاد عن تكرار حديثها عن دقة إعداد ماء الورد والزهر، وتشدد على أنه «ممنوع أن يمدّ أحد يده على الورد إلا صاحبة البيت لأن صناعته دقيقة جداً ويحتاج إلى الانتباه الدائم، ولا يمكن تركه.
وعن استعمالات الماء المقطّر، تؤكد أن استعمالاته متعددة «لا يمكن الاستغناء عنه في صنع الحلويات العربية التقليدية التي تشتهر بها طرابلس، مثل المعمول والرز بحليب والمهلبية والحلويات الرمضانية».
ويتحدث بعض العطارين عن فوائد ماء الزهر والورد «فمنها ما هو جمالي للعناية بالبشرة وتنقيتها، ومنها ما يتخذ طابعاً علاجياً. ماء الزهر مفيد جداً، ويمكن استخدامه للمغص وأوجاع البطن».
وكأي مستحضر آخر، يبقى الغش وارداً. لكن هناك طريقة لاكتشافه من الطعم «ست البيت الخبيرة يمكنها اكتشافه مباشرة من طعمه المر» كما تقول سعاد.
في السنوات الأخيرة، بدأت ظاهرة إنتاج ماء الزهر والورد تنتشر بناءً على الطلب، لأن هناك من يجد صعوبة في إعداده ويفضل شراءه جاهزاً. وتشتهر منطقة القلمون والكورة بإنتاج ماء الزهر، حيث يوجد عدد كبير من النساء اللواتي يستثمرن هذه الفرصة لتصنيعه وبيعه، وتأمين أرزاقهن منه، فهو مصدر دخل جيد، ويذكر بعضهم أن هناك عدداً كبيراً من عطاري طرابلس وأصحاب معامل الحلويات يتعاقد مع سيدات متخصصات في إنتاج كميات كبيرة من أجل
التجارة.