من الآن وصاعداً، نذرت جباع الحلاوة على نفسها بألا يدق جرس كنيستها مجدّداً إلا مبشراً بالأعياد، وإن كانت وفاة جوزيف خليل حداد هي التي أعادت الروح لكنيسة السيدة وجرسها مطلع الشهر الجاري بعد صمت كبر منذ عام 1977. أبو جورج لم يقطع أواصر المحبة والود مع أبناء بلدته على الرغم من انقطاع إقامته فيها كسائر مسيحيي جباع (قضاء النبطية). أما والده فقد دشن ورشة تشييد المسجد، جار منزله في الساحة العامة. هكذا، كان طبيعياً أن تحفظ جباع الحلاوة مكاناً لروحه في سمائها برغم موته بعيداً عنها. إلى كنيسة مار جرجس في الشياح، نزل وفد جباعي للمشاركة في مراسم دفنه، ضم النائب محمد رعد ورئيس البلدية عدنان نعمة ورئيس جمعية البر والإحسان الخيرية محمد عيسى ووفد من بلديات إقليم التفاح. استأذن الوفد من أسرة حداد بأن يقام قداس لراحة نفسه في كنيسة جباع. جاهزة كانت البلدية لتجهيز الكنيسة المقفلة والتحضير للقداس وتوجيه الدعوات. عائلة حداد تكفّلت بترتيب القداس برئاسة ابن شقيقة المتوفى الأب أندريه غاوي. يوم الأحد في الثامن من الشهر الجاري، حضر حوالى 65 شخصاً من أسرة وأقرباء أبو جورج.

رفع الآذان في مسجد السيدة نرجس المجاور أعقبه دق جرس الكنيسة إيذاناً ببدء القداس بحضور رعد وفعاليات المنطقة. كانت مناسبة لكي تتعرّف الأجيال الشابة إلى بعضها البعض. أهالي البلدة المقيمون لا يعرفون المسيحيين الذين ولدوا وكبروا بعيداً عنها في بيروت والمهجر. لم يتعرفوا إلى أهل بلدتهم فقط. التقوا مجدداً بجيرانهم في قرى المسيحيين في إقليم التفاح وجزين من جرجوع حتى حيطورة وزحلتا وبصليا وسنيا وجرنايا والمجيدل... دق الجرس مجدداً في نهاية القداس. انتقل المدعوون إلى مأدبة غداء أقيمت على شرف العائلة في قاعة الجمعية في ثانوية جباع، قبل أن تعود أدراجها إلى بيروت. أما في الكنيسة، فقد ذابت الشموع وذبلت الورود وأقفل الباب مجدداً على كراسيها وأيقوناتها.
منذ أن اكتمل غياب العائلات المسيحية عن جباع، تولى أهالي البلدة حماية الكنيسة من التخريب والسرقة. في القداس الأخير، حضرت كراسي القش والمقاعد الخشبية التي انتظرت المصلين منذ سنوات في الغرفة الصغيرة التي بنيت عام 1909.

يتمنى رئيس البلدية لو يقام قداس
كل يوم أحد في كنيسة السيدة
قناطرها المعقودة في السقف وغياب النقوش والألوان عن جدرانها، يجعلها لا تختلف عن المساجد القديمة. لكن موجوداتها البسيطة التي تؤرخ لوحات رخامية أسماء من قدمها، لم تكن عصية على الغبار. حبل الجرس السميك تآكل مع الزمن. لكن البلدية الحالية، وصلته بحبل جديد أسمك لا ينقطع، وإن كان وصل معظم المسيحيين انقطع مع جباع. يتمنى رئيس البلدية عدنان نعمة لو يقام قداس كل يوم أحد في كنيسة السيدة أو في الأعياد على الأقل. يبدي حماسته وحماسة النائب محمد رعد وفاعليات المنطقة لإعادة مسيحيي جباع إلى ارضهم ولو في «الويك أند». يلفت إلى أن مغادرتهم بدأت منذ عقود طويلة. نزحوا إلى بيروت أو هاجروا إلى أستراليا وأميركا والبرازيل والأرجنتين... زاد النزوح مع بداية الحرب الأهلية قبل أن يبلغ ذروته في الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. كانت نمنم نحاس آخر المسيحيين الصامدين. أثر جاراتها الشيعيات كان حاضراً في معمول العيد والزلابيا والبيض وشجرة الميلاد. فيما أثرها هي لا يزال حاضراً في مجالس عاشوراء. عاشت وحيدة في بيتها من دون أولاد أو أقرباء. عندما توفيت عام 1988، تولى جيرانها مراسم دفنها على الطريقة المسيحية بمساعدة الأب الراحل سليم الغزال.
يبلغ عدد المسيحيين في لوائح الشطب 92 شخصاً. يؤكد نعمة أن عددهم أكبر بكثير حالياً. لكن الأجيال اللاحقة لم تسجل أولادها في نفوس جباع برغم أن أحداً من المسجلين في الأساس لم ينقل قيوده. كبار السن منهم لا يزالون يزورون البلدة لتخليص معاملاتهم أو يطلبون من نعمة والمخاتير إنجازها وإرسالها إلى بيروت.
في الحارة القديمة، تستكين كنيسة السيدة بين البيوت السكنية في الأزقة الضيقة. لا يحجبها عنهم سوى سور يعلوه شبك حديدي استحدث حماية لها من المتسللين. باحتها نظيفة وأشجارها وارفة، لكن صمتها حزين. يريد نعمة أن تضج الحياة في بيت السيدة كما تضج في بيوت جيرانها. أطلق نداءه إلى عائلة حداد وأقربائهم لكي يعقدوا الوصل مجدداً. يذكر أن العم جوزيف ووالده علي نعمة وخليل ناصر غادروا للعمل في بيروت عام 1955. طوال سبع سنوات، آوتهم غرفة صغيرة في رأس النبع. العم جوزيف كان صاحب الفضل في استمرار العلاقات إذ كان يحرص على زيارة جباع في المناسبات.
في منزلها في عين الرمانة، تحيي أسرة جوزيف زمن الصوم، فيما يحييه ابنه جورج وإخوته في الغربة. طوال السنوات الماضية، كانت بشارة عيد الفصح تطلع من الشياح أو جل الديب أو عين الرمانة حيث انتشرت العائلة والأنسباء. فهل تبشر جباع بفصح هذا العام؟