لعلّ أبرز ما يتكرر من أقاويل منذ الصغر هو أن الصوم ليس امتناعاً عن تناول الطعام فحسب، وأن المأكولات يجب ألا تشكّل المحور الأساسي لأيام الصوم. إلا أن الواقع مختلف تماماً، فحين يتم التخلي عن جزء كبير من النظام الغذائي الطبيعي لمدة خمسين يوماً تقريباً، لا يعود الصوم بالنسبة لكثيرين مجرد عبادة تقرّب من الله من خلال الصلاة ومساعدة المحتاجين، بل تطغى المواضيع المتعلقة بالمأكولات على مجمل الأحاديث.
وتحديد موعد بدء الصوم يُقرّر نسبةً لعيد الفصح الذي يجب أن يكون دوماً يوم أحد، وبالتدرّج يسبقه ستة أيام من أسبوع الآلام ويضاف إليها أربعون يوماً من الصوم، ويوم أو يومان لبدء الصوم الذي يجب أن يكون يوم الاثنين، فيتأرجح المجموع بين ثمانية وأربعين يوماً وتسعة وأربعين في كل عام.
وبخلاف ما هو سائد، لا يكون الصوم الحقيقي (بحسب التقويم الشرقي) من خلال اختيار كلّ شخص لأنواع من المأكولات والامتناع عن تناولها. بل يقضي الصيام بالامتناع عن تناول اللحوم بمختلف أنواعها وأشكالها، والامتناع أيضاً عن تناول الأغذية التي تنتج عنها. أي، لا يمكن للمؤمن المسيحي تناول أيّ من المنتجات الحيوانية خلال فترة الصوم، بالإضافة إلى الامتناع عن الطعام والشراب من الثانية عشرة فجراً إلى الثانية عشرة ظهراً. ويهدف الصيام إلى «التقرّب من الخالق وتحضير الجسد والروح لآلام المسيح الذي سيُصلب وبعدها سيفرح أتباعه بقيامته، بحسب التعاليم المسيحية».
لكن فترة الصوم الطويلة والتسامح، الذي يمثل جوهر الدين المسيحي، ساهما بشكل واضح في ابتعاد المسيحيين عن تقاليد الصوم المتعارف عليها، أو «تعديله»، كلّ بحسب قدرته على التحمّل وأهوائه وقناعته بأنه يُرضي ربه على طريقته. هكذا انتشرت عادة اجتزاء الصوم في الأوساط المسيحية. فتجد هناك من يقرّر الصوم عن الحلويات التي يدمنها، وآخر يصوم عن تناول اللحوم فقط ويُبقي على تناول الأجبان والألبان والبيض وغيرها... وقد يستنسب آخرون الامتناع عن التدخين.
فترة الصوم الطويلة وتسامح الديانة المسيحية ساهما في تعديل شروط الصوم
والطريف أن هناك من يمتنع عن الكذب أو الشتم، وكأن المسيحية تسمح أصلاً بهما.
يساعد في هذا الاجتزاء «اجتهادات» الطوائف الغربية، وبالأخصّ الكنيسة المارونية. في حين تحافظ كلّ من الكنيسة الأرثوذكسية بالدرجة الاولى، والكاثوليكية ثانياً على تشدّدهما.
هكذا، تسمح الكنيسة المارونية لرعاياها باختيار نوع من الطعام والامتناع عن تناوله، وربما تسمح أيضاً بتناول هذا النوع خلال أيام الآحاد بحسب تعبير بعض المارونيين الذين لا يقبلون التشكيك بكلامهم فـ«الكنيسة تسمح بذلك لأنه يوم الرب» بحسب تبرير أحدهم. ويذهب بعض الموارنة إلى أبعد من ذلك باعتبار أن المياه لا علاقة لها بصيام الاثنتي عشرة ساعة، فبالتالي مسموح تناولها دون أن يُعدّ صيامهم ملغياً.
هذه الممارسات، إذ أمكننا تسميتها كذلك، لا تخضع لقاعدة ثابتة تحدّد الصح من الخطأ، لأن الرعية تتبع الراعي. والأخير، الكاهن غالباً، هو من يسمح أو يمنع بحسب صرامته أو انفتاحه في هذه المواضيع. ويمازح البعض في هذا الشأن بالقول إن بعض الصائمين يبدون كمن يقف أمام «بوفيه» مفتوح، وكلّ ما عليهم اختيار نوع المأكولات التي يريدون من خلال الامتناع عنها التقرب من ربهم. والتبرير الذي يكثر استخدامه لدى السؤال عن «الصوم الصحيح» هو الآتي: «لا يمكن لأحد أن يُحاسب أو يعطي رأيه بطريقة الصوم التي يعتمدها أيّاً كان، فهو قرار شخصي يجمع الفرد بخالقه». ويمكن أن تكون الإجابة أكثر وضوحاً كأن يقول أحدهم «إن الدين المسيحي منفتح ويعطي الحرية الكاملة للفرد باختيار طريقه الخاص في التقرّب من الله».
هذا التساهل الجزئي في الصوم لا يلغي طقوساً تقليدية تلتزم بها الكثير من العائلات المسيحية وأهمها الالتزام بأطباق المأكولات المصنوعة بالزيت والتي تشكّل أساس المائدة لفترة الخمسين يوماً، وهي كثيرة. الزعتر بزيت الزيتون من أساسيات المائدة، وكذلك الحلاوة أو الدبس بالطحينة لاستبدال أي نوع آخر من الحلويات الممنوعة. ونلاحظ في القرى، التي تحافظ على العادات والتقاليد القديمة بحرص أكبر مما يحصل في المدن، اجتماع صبايا العائلة في عطلة نهاية الاسبوع لتحضير ما يمكن تحضيره من هذه المأكولات مثل ورق السلق المحشي أرزاً، وحبوب الحمص والبقدونس والبندورة، أو شي الباذنجان وتخزينه في البراد لتتم معالجته لاحقاً ليُشكل أطيب صحن بابا غنوج.

يصوم المسيحيون 12 ساعة يومياً ويمتنعون عن أكل اللحوم 50 يوماً

العادات المرافقة لزمن الصوم، بالأخص تلك المتعلقة بتحضير المأكولات كثيرة، فهناك بعض المأكولات التي تنتهي بكلمة «قاطع» لتمييزها عن غيرها وللإصرار على أنها مخصصة لـ«الصيام». ورق عنب قاطع، محشي كوسا قاطع، لوبية قاطع... كما أن هناك أطباقاً تعرف، دون دلالة اسمها على ذلك، بأنها من مميزات هذه الفترة كـ«الكبة حيلة»، وكما يدل اسمها فهي محاولة للتحايل على أقراص الكبة باللحمة العادية فتتكون من برغل وبطاطا والحشوة تقتصر على بصل وسماق وبعض البهارات.

لكن كيف بدأ المسيحيون الصوم؟

يتحدث أحد الآباء عن بدايات الصوم عند المسيحيين، فيقول إن الرهبان كانوا قديماً من الطبقة الفقيرة، وغالباً ما كانوا يسكنون في الجبال، وكانت اللحوم من المأكولات الباهظة الثمن لذلك قرّروا تحديد فترة زمنية للانقطاع عن تناولها ومشتقاتها ضمناً، لتوفير بعض المال يصرفونه على شراء حاجات أساسية لهم، بالإضافة إلى الامتناع عن تناول أي طعام أو شراب لمدة اثنتي عشرة ساعة ما يجعلهم بغنى عن احدى الوجبات التي تساهم في تقليص المصروف.
ومن الحكايا التي تتردّد عن بدايات الصوم، أيضاً، أن هذه الممارسات بدأت منذ القدم وتحدّد توقيتها في بداية فصل الربيع، أي في الفترة نفسها التي تضع الحيوانات صغارها فيكونون بحاجة إلى حليبها أكثر من حاجة البشر إلى اللحوم. لذلك تم تخصيص هذه الفترة للحيوانات الرضّع.
زمن الصوم لم يفقد جوهره حتى الآن لكنه خسر عدداً كبيراً من مناصريه، فأغلب المسيحيين يمارسون التقاليد المتعلقة بالأعياد مع إغفال الممارسة اليومية. يذهب الجميع إلى قداس أحد الشعانين بثيابهم الجديدة، يذهب المؤمنون إلى قداس منتصف وصباح العيد، «يتفاقس» الكل بالبيض يوم العيد الكبير أي عيد الفصح، تجتمع العائلة لتناول غذاء العيد بعد صوم طويل لكن الممارسات اليومية كالمشاركة بالصلاة اليومية خلال الصوم فيغيب عنها الجميع إلا بعض المتفانين والكبار بالعمر.
لا ضير في أن تكون الممارسات الدينية قد تحولت مع الوقت لفرصة تجتمع فيها العائلة والأحباء في ظل الحياة السريعة والمتعبة التي نعيشها، فهي فرضة للتعبير عن مبادئ الكنيسة: محبة فرح وعطاء.