تبعث فيك الأغاني القديمة حنيناً إلى أيام خالية من أي مسؤولية. إلى مكان دافئ في ذاكرتك ترقد فيه مغامراتك مع أقربائك وأصدقائك ومحاولاتك الفاشلة في جذب زميلة الدراسة أو مراقبة ابن الجيران. يدفعك سماعها بعد عشرات السنين إلى الرجوع بالزمن في رحلة ذهنية إلى الأماكن والأحداث التي ارتبطت بها هذه الأغاني. تعود بالزمن وتتساءل: هل ما كان رائجاً في الماضي جميل فعلاً، أم أن المرحلة العمرية هي التي تمنحك هذه المشاعر بغض النظر عن الأغاني والأحداث والأماكن؟
ثمانينيات الحرب والحب

«كنت أتشاجر مع أختي على حيازة المسجلة الوحيدة في المنزل»، تقول نسرين (٤٨ سنة). تتابع «كنت أحب الاستماع الى وردة، بينما أختي كانت تفضل ميادة الحناوي وعبد الحليم حافظ، ولم تكن تسنح لنا فرصة الاستماع الى الاغاني الا بعد خروج والدي من المنزل». فوالد نسرين لم يكن يحبّذ استماع الفتيات الى الأغاني التي قد تعرّفهم الى الحبّ وقصصه. «عندما هربنا من بيروت أثناء الاجتياح الاسرائيلي الى القرية في الجنوب، كنا نقوم بكزدورتنا المعتادة عند العصر»، تتذكر نسرين، «وكانت أغنية «الحب اللي كان» لميادة الحناوي ترتفع من «الدسكوتيك» الوحيد في محلتنا». وقتذاك، اشترت نسرين الشريط، وانتظرت نوم والدها لتستمع اليه وأختها طوال الليل، «لصقنا خدينا على كل جانب من المسجلة لنستمع الى الاغنية حتى انطبع شكل المسجلة على وجهينا».
عند عودتها الى بيروت، انهمكت نسرين بأعمال المنزل وتربية اخوتها السبعة الى جانب والدتها التي لم تمانع سماعها للغناء، «كان هم والدتي ان نهتم بأمور البيت فقط؛ ولكي نشعر بالحماسة، كنا نستمع الى الأغاني الرائجة آنذاك مثل «حبيبي يا عيني» أو «شفتك بعيني يا كذابة» و»عازز عليّ النوم»، تتعددها نسرين ثم تتنهّد، «نصفها بأغاني الزمن الجميل لنكتشف لاحقاً أن الزمن لم يكن جميلاً أبداً، بل جمّلته الأغاني».
في الثمانينيات لمعت أسماء فنانين آخرين بعيداً عن أجواء الطرب الكلاسيكي، «لا يمكنك تعداد المغنين في تلك الحقبة إن لم يكن سامي كلارك أوّلهم»، تقول حنان (٤٥ سنة). ومن اشهر اغانيه كانت «قومي ت نرقص يا صبية»، و «آه على هالأيام»، واغنية جزيرة الكنز وغراندايزر. تسكت حنان لثوان وتستدرك «قد يحتاج الجيل الجديد الى البحث على الانترنت لمعرفة عمن اتكلم، فأسماء كعازار حبيب وحكمت وهبي وربيع الخولي وجورجيت صايغ وغيرهم لن يعرفها جيل الكرتون»، على حد تعبيرها. «ثمة اغنية تعود بي الى بيتنا القديم في بيروت»، تقول حنان، «كنت أقف على الشرفة بحجة الدرس، بينما كنت في الحقيقة معجبة بشاب يعمل في صالون حلاقة في المبنى المقابل». لم تعرف حنان اسم الشاب، ولم تكلمه يوماً، لكنهما كانا يتواصلان عبر الأغاني، «يللي ما بعرف اسمك، ريتو يسلملي جسمك»، تدندنها محاولة إكمال الاغنية، وتفشل. «هذا ما علق ببالي، وكانت رائجة آنذاك، يغنيها سمير حنا حسبما اذكر»، تضيف حنان. وماذا حدث لاحقاً؟ «اضطررنا للانتقال من المنطقة بسبب الأحداث، وبالكاد أذكر ملامح وجه الشاب، لكن الذكرى جميلة، رغم الحرب».


ثورة الفيديوكليب

مايز البياع والـwalkman (جهاز تسجيل وراديو متنقّل)، هما نجما مرحلة التسعينيات حسب ماهر (٣٨ سنة). «انطلقا معاً، انما اختفى مايز البياع ولم نعد نسمع به في حين اشتهرت الـ walkman بأشكالها العديدة». يروي ماهر مغامراته مع ابن عمّه في سرقة سيارة والده للتجوّل بها في الشوارع ورفع صوت الأغاني عند مرورهما بجانب منزل «حبيبة» ابن عمّه.
اعتمد المحبّون الأغنيات
كرسائل موجهة ومباشرة إلى الطرف الآخر


قلّد ماهر شكل مصطفى
قمر لكي يحظى بإعجاب الفتيات من دون جدوى
كان ماهر قادراً على تحديد حالة ابن عمه من خلال الأغاني التي كان يضعها، فإذا كان على توافق مع حبيبته، كانت تصدح أغنية «مين حبيبي أنا» لوائل كفوري ونوال الزغبي، أو أغنية «ما تخافيش» لعمرو دياب أو «أنت حياتي أنت» لمايز البياع. أما الأغنية الأكثر طرافة فكانت «زتّي عنك هالمريول» لزين العمر.
لم تطل سرقة ماهر وابن عمه السيارة، فقد انكشف أمرهما لاحقاً بعدما شكا أحد الجيران لوالده الذي عاقبهما بشدة. لكن على عكس ابن عمّه، لم يحتج ماهر الى سيارة لإثارة إعجاب زميلته في المدرسة، «أذكر بأنني قضيت أكثر من أسبوع وأنا أستمع الى الأغاني على «الووكمان» وأسجل أسماءها كي أصنع منها شريطاً واحداً لأهديها اياه. يعدّد أسماء الأغاني، ويوضح سريعاً أنه يتذكرها ليس بسبب قوة ذاكرته، بل لأن زميلته أعادت الهدايا له بعد فشل علاقتهما، ولم يشأ أن يتخلص من الشريط فاحتفظ به حتى اليوم.
ربى (٣١ عاماً)، كانت احدى الفتيات المحظوظات بالحصول على «شريط أغاني» كهدية لها من ابن الجيران. «لا أعرف إن كان يصح تسميتي بالمحظوظة آنذاك»، تقول ربى، فالشريط الهدية كان وسيلة لإخبارها انها «ناكرة المعروف» بصوت عاصي الحلاني، وانها كانت سبباً للكآبة والحزن، اذ يتضمن باقي الشريط أغاني لهاني شاكر. تصف ربى تلك الفترة بالصعبة، إذ كانت تشعر بالذنب جراء رفضها ابن الجيران، وكانت تنام باكية معظم الوقت: «كانت الاغاني في ذلك الوقت ملخصاً للحالة التي يمر فيها الشخص في هذا العمر الهشّ» تقول ربى. كما تربط مرحلة اواخر التسعينيات وبداية الألفية الثالثة بذاكرتها الصورية، «في تلك المرحلة راجت المحطات التلفزيونية المخصّصة لبث فيديوات مصورة للأغاني، ولا أزال أذكر كيف قضيت أسابيع مع ابنة خالتي نحاول تقليد الرقصة التي يؤديها هشام عباس وحميد الشاعري في اغنية «عيني» ولم نفلح». وبعدها بسنتين أو ثلاث حاولت ربى مجدداً تأدية رقصة الفتيات في أغنية «ولا على بالو» لعمرو دياب، وفشلت أيضاً.
بدوره يروي أمين (٢٧ سنة) مدى تأثره بمصطفى قمر، اذ التفت الى مدى ولع الفتيات بوسامته عند إصداره لأغنيته «منايا» عام ٢٠٠٢: «قررت حينها أن أشتري قميصاً أحمر مشابهاً للذي يرتديه في الفيديوكليب» يقول. كما حاول تقليد قمر بقصة شعره علّه يلفت نظر الفتيات، «عندما أحضرت القميص، تسمّرت أمام التلفاز أنتظر عرض الفيديوكليب لأقارن إذا ما كان لون القميص مطابقاً أم لا»، يقول أمين مبتسماً ومن ثم يومئ برأسه الى الخلف ويضيف «ما نفعني القميص».

«النضوج» الموسيقي

النضوج بشكل عام يشمل الحس الموسيقي أيضاً، بحسب ماهر. في العمر «الواعي»، يحلو الاستماع إلى الأغاني ذات اللحن والمغزى العميقين. في مرحلة الصغر، قد تبدو فيروز للبعض «مملة وبطيئة»، برأي ربى، «لكن عندما كبرنا، اكتشفنا أن فيروز أفضل من يتكلم بلغة الأحاسيس وأنها لا يمكن ان تصنف من بين الكلاسيكيات أو الاغاني القديمة. فيروز تصلح لمدى العمر ولكل أنواع الأحاسيس». الأمر ذاته ينطبق على صباح وعبد الحليم وفريد شوقي وأم كلثوم ووردة وغيرهم بالنسبة إلى نسرين، «في صغري، كنت أظن أن أم كلثوم رجل، وكنت أتعجّب كيف لوالدتي أن تستمع اليها. أما اليوم، فأغانيها لا تفارقني أينما حللت». أما أمين، فقد سجّل كل أغاني التسعينيات واوائل سنوات الالفين على اقراص مدمجة ليستمع اليها خلال سفره، «لا أجد متعة في الأغاني الجديدة، أملك أرشيف جميع المغنيين اللبنانيين، وأحب الاستماع إلى أغاني الطرب بصوت جورج وسوف أو محلم زين». ويضيف بنبرة يعلوها الإحساس بالذنب «كما أحتفظ بكلّ أغاني فضل شاكر».