طوال يوم أمس، كان الموت مخيّماً فوق سماء رومية. احتار السجناء كيف يعبرون عن مدى حزنهم لموت زميلهم ريمون مسلّم، الأربعيني الذي شاركهم إضرابهم عن الطعام، وهو في حال صحية صعبة. نقل مسلم إلى المستشفى (بعد تأخير في النقل بحسب رفاقه) إثر وعكة ألمّت بجسده الضعيف، ثم فارق الحياة على سرير المستشفى.
لماذا يحصل هذا، ولماذا كل هذا الحديث عن السجون؟ يسأل بعض اللبنانيين. أحد السجناء تكفّل، ليل أمس، بالرد على أصحاب هذا السؤال. رده كان موجهاً إلى سيدة لبنانية «تقرف» من السجناء، وتريد لهم أكبر قدر من «التعذيب». أخبرها خليل، السجين منذ 19 عاماً، على إحدى صفحات الإنترنت (يملك هاتفاً مربوطاً بالشبكة) أن «هؤلاء بشر مثلك مثلهم». لم تجبه بعدما عرفت أنه سجين. ربما غاب عن بالها أنها يمكن أن تصبح ذات يوم سجينة في لبنان. ففي هذا البلد، يمكن أن يصيبها ما أصاب خليل أبو عنة، السجين الذي فارق الحياة قبل نحو عام أثناء الانتفاضة، والذي دخل السجن لعدم حيازته مبلغاً يكفي للتعويض على شخص صدمه بسيارته عن طريق الخطأ.
ماذا يريد السجناء من كل هذا الضجيج الذي لا ينفكون يحدثونه؟ كلهم، بمختلف طوائفهم، يريدون عفواً ما، بشكل ما، يخفف عنهم سنوات العذاب «التي ليس لدينا اقتناع بأننا نستحقها». يمكن هذه الأيام التواصل مع السجناء بعدما باتت بحوزتهم هواتف خلوية متطورة. يمكن فهم كيف يفكرون أكثر من الأيام الماضية. خليل الشال، نزيل مبنى المحكومين، غير مقتنع بأنه يستحق أن يعاقب «في بلد مثل لبنان». في نظره أن من يجب أن يكون في السجن هم خارجه الآن. هو على اقتناع راسخ بأنه مظلوم، رغم اعترافه بارتكاب أخطاء يستحق عليها العقوبة، ولكن أن يعاقب هو ويبقى «من يسرق جبالاً من الأموال من حقوق الناس خارج السجن، فهذا أمر لا يمكنني التعايش معه».
السجناء لديهم تلفزيون داخل كل زنزانة. يشاهدون العالم من خلال شاشة، يرون كيف يعيش سواهم ويشاهدون من خلال الأفلام كيف هي السجون في دول أخرى. باتوا يعرفون أكثر ما يجب أن تكون عليه الحال عندهم. يريدون غرفاً غير مكتظة، ويطلبون علاجاً لمشاكلهم الصحية من دون أن توجب الدولة عليهم تسديد ثمن العلاج ... من سني العمر لمن لا يملك منهم المال، وأكثرهم لا يملك. وقبل كل ذلك، يريدون من رجل الأمن «أن يعاملنا كبشر. أن يحترمنا. فإن كنا أخطأنا يوماً، فها نحن ندفع الثمن، ولكن نريد أن ندفعه بكرامة، وإلا فلا ينتظر منا أحد أن نبقى ساكتين».
أين أصبح موضوع العفو، الذي قال نواب الأمة إنهم يدرسونه؟ يوم أمس اجتمعت لجنة الإدارة والعدل لـ«دراسة موضوع السجون والسياسات العقابية». وبحسب ما صدر بعد الاجتماع، جرى التطرق إلى حلول تتضمن التوقيف الاحتياطي وضرورة معالجة هذا الأمر، والإسراع في بتّ الطلبات المقدمة من السجناء لخفض العقوبات، فضلاً عن اقتراح «قانون عفو مشروط». بعد الجلسة، اتفقت اللجنة مع وزير العدل شكيب قرطباوي على عقد جلسة برئاسته، وذلك بحضور قضاة النيابات العامة وقضاة التحقيق من أجل درس الآلية اللازمة للتسريع في حل مسألة التوقيفات الاحتياطية. هكذا، جلسة كسائر الجلسات التي سبقت. درس وتحليل وتفكير ووعود. بعض أعضاء اللجنة يصرون على عبارة «أنهم لا يمشون تحت الضغط. يمكن السجناء أن يضربوا عن الطعام، وأن يحتجوا كما يريدون، لكن عليهم أن يعرفوا أن موضوع العفو لا يمكن حله سريعاً. نحن على اقتناع بوجود ظلم في السجون اللبنانية. وللأسف، نحاول إصلاح ما تم إفساده خلال عقود من الزمن، وبالتالي عليهم أن يعطونا مهلة كافية». إلى ذلك، لم يفوّت النائب غسان مخيبر «خميسه السجني» المواظب عليه منذ أكثر من شهر، إذ زار أمس سجن رومية، برفقة مسؤولين أمنيين، ووضع السجناء في أجواء الاجتماع الذي حصل، طالباً «الصبر والتعقل».
بالتأكيد، بإمكان أي أحد أن ينظّر في موضوع الصبر على أي كان، باستثناء السجناء، فـ«نحن هنا أرباب الصبر، ولا يستطيع أحد أن يعرف ما نعنيه إلا إذا جرّب يوماً السجن هنا، ومن كل قلوبنا لا نتمنى لأحد ذلك». هكذا علق أبو وليد، أحد السجناء في رومية، على كلام النائب، وأضاف: «يطلبون منا الصبر، ونحن سنصبر، ولكن على كل المسؤولين أن يعرفوا أننا نعرف بأنهم ما كانوا ليصبروا ساعة لو كان ابن أحد منهم هنا معنا. كانت ستقوم القيامة ولا تقعد».