بعد ثماني سنوات من التوقف، استعاد أهالي عاليه أمس بعضاً من ألق «سمبوزيوم عاليه الدولي للنحت»، إذ كانوا على موعد مع منحوتة جديدة تحتضنها مدينتهم، إلى جانب عشرات الأعمال التي تزيّن المدينة. منحوتة يفترض أنها تحفر في ذاكرة عدد من الفتيان، الذين تجوّلوا في الجبال المحيطة بعاليه ليجمعوا شظايا قنابل تعود إلى الحرب الأهلية.أكثر من ثلاثة آلاف شظية جمعت، وشحنت إلى سويسرا، لتعود أمس باسم «أزهار الشر ـــــ مرج الاضطراب» ( fleurs du mal- champ d›inquietude)، بعدما جابت عدداً من دول العالم خلال 11 عاماً، مشاركة في الكثير من المعارض الفنية عبر العالم.
المنحوتة التي ولدت من رحم «سمبوزيوم عاليه» الدولي، الذي كانت تنظمه بلدية عاليه سنوياً، عادت إلى المدينة، واحتلت مكانها في ساحة تطلّ على الأماكن التي جمعت منها الشظايا. أمر لا يخلو من دلالة، وخصوصاً أن الخيارين البديلين كانا إما حديقة في الحي الغربي، وإما مكتب التنمية المحلية، الذي لا يزال قيد البناء. وقد اختارت الروائية اللبنانية إيمان حميدان هذه الساحة بقرار من رئيس البلدية وجدي مراد.
استقرار المنحوتة في عاليه «قرار كان يجب أن يتخذ يوماً ما. إن هذه المنحوتة تنتمي إلى هذا المكان، وهي ليست عملاً تجارياً»، يقول لنا الفنان إتيين كراهينبول. الرجل الذي قادته الصدفة إلى عاليه قبل 11 عاماً أحبّ لبنان، وأحبّ عاليه. لا يشعر بأن أيّ مكان آخر يمكنه أن يحتضن نصبه الفني، حتى حديقة الصليب الأحمر الدولي في جنيف، حيث كان ممكناً له أن يكون. «لم ينجح الأمر هناك وأنا غير حزين، لأني كنت أريد لمنحوتتي أن تكون هنا، وسارت الأمور كما أرغب».
نعود مع كراهينبول إلى عام 2000، يومها لم يستطع صديق له المشاركة في «السمبوزيوم» الذي كانت تقيمه بلدية عاليه، واقترح عليه المشاركة عوضاً عنه فوافق. كانت فرصة ليكتشف لبنان الذي يعرفه من أصدقاء لبنانيين. وكان حريصاً عندما وصل إلى عاليه على أن يختار موضوعاً يبقيه وفياً لمسيرته الفنية: الوقت وما يفعله بالمادة، إضافة إلى علاقة المواد بالهواء. لم يكن صعباً عليه أن يجد موضوعاً ملائماً، وخصوصاً أن عاليه مدينة الهواء، لكن الفكرة تطوّرت أكثر من خلال قصة المدينة وما مرّ عليها في العقود الأخيرة.
خلال وجوده في عاليه واللقاءات التي كانت تجمعه بالنحاتين الثمانين الذين استضافتهم البلدية، طلاب الجامعة اللبنانية، أبناء المدينة، أمكن الاستماع إلى أخبار الحرب. تعرّف إلى تاريخ لبنان وتاريخ المدينة. وجد بعض الشظايا وتغيّرت الفكرة. المنحوتة التي عمل عليها في «السمبوزيوم» كانت نموذجاً صغيراً عن «أزهار الشرّ». مجسّم صغير يحمل عدداً من الشظايا، لكن فكرة العمل على منحوتة أكبر بقيت في بال كراهينبول، وللغاية تعددت زياراته إلى لبنان، حيث كان يجمع الشظايا بمساعدة عمّال من البلدية، ويحملها معه إلى سويسرا. جمع ثلاثة آلاف شظية، زرع منها نحو ألف على معادن تنحني مع البرودة، وتستقيم مع الحرارة (الشمس) ليؤكد فكرة الولادة المتجددة. «كنت أريد أن أؤكد فكرة أن الإنسان يحارب ليبقى. عادة عندما نحكي عن الحرب أو نحاول أن نخلّدها في نصب، نحكي عن الشهداء، لكن ماذا عن الذين تألموا؟ كثيرون من اللبنانيين كانوا عندما يرون الشظايا يرفعون قمصانهم ليروني آثارها على أجسادهم».
من هنا ولد اسم «أزهار الشر ـــــ مرج الاضطراب». صديق له ذكّره بالشاعر الفرنسي بودلير، وكيف يمكن الشر أن يخرج من الجمال، لكن إنسانية الفكرة واتخاذها أبعاداً أخرى بالنسبة إليه جعلاه يضيف «مرج الاضطراب».
قصة هذه المنحوتة دوّنها كراهينبول في كتاب يحمل العنوانين، باللغتين الفرنسية والعربية. وقد وقّع الطبعة العربية في الاحتفال الذي أقيم أمس. ويأتي هذا الكتاب ليبرهن أهمية «قصة» المنحوتة بالنسبة إلى صاحبها. يقول: يمكن من يرغب في أن يراها كعمل فني منفصل، أن يتأملها كحقل من سنابل القمح، ويقرأ اللافتة التي سنعلّقها أدناه، لكن من يرغب في أن يعرف أكثر فعليه أن يقرأ الكتاب ليعرف قصة ولادتها، والفكرة التي تقف خلفها.
لذلك لا تنفصل فكرة المنحوتة عن أهمية وجودها في عاليه. لم يكن الأمر سهلاً، وخصوصاً على صعيد التكلفة. وعندما تبرّعت السفارة السويسرية بكلفة نقل المنحوتة إلى لبنان، أصبح من السهل إقناع بلدية عاليه بتأمين الأمور الأخرى، من الساحة التي ستحتضن التمثال، إلى تأمين إقامة كراهينبول وزملائه (زوجته وفريق يعدّ فيلماً عن أعماله)، عدا الاحتفال. تروي إيمان حميدان أن فكرة نقل المنحوتة إلى عاليه تعود إلى عام 2006. التقت صديق كراهينبول دافيد كولين عام 2006 وأخبرها عن الأمر. آنذاك كان لبنان خارجاً لتوّه من حرب تموز، ولم يكن هناك إمكان لبحث هذا الموضوع مع أحد. في عام 2008 تعرفت حميدان على كراهينبول وتحمست للفكرة. قدّمت المشروع شفهياً إلى رئيس البلدية عام 2010، وبدأ العمل على الموضوع من أجل إيجاد التمويل.
هذا الحدث يعيدنا بالذاكرة إلى «السمبوزيوم» الذي مثّل على مدى ثلاث سنوات حدثاً ثقافياً رائداً في لبنان، وخصوصاً أنه من تنظيم محلي. وقد حاز شهادة من الأونيسكو وسمح بوضع شعارها عليه. يقول رئيس البلدية مراد وجدي إنه توقف بسبب الكلفة المرتفعة، مفضلاً عدم الحديث عنها اليوم، لأنها «بالتأكيد باتت أكثر بكثير مما كانت عليه سابقاً». على الرغم من ذلك لم تهمل عاليه النحت تماماً، إذ تستقبل سنوياً عدداً من النحاتين المحليين كما يقول. «نحن مستمرون في هذا النشاط ولم نتوقف». مراد كان تحدّث بحنين في مقابلة سابقة عن «السمبوزيوم»، الذي أقيم ثلاث سنوات على التوالي، واستقبل نحاتين عالميين من مختلف دول العالم، وأنتج 340 عملاً. تدرّب خلاله طلاب معهد الفنون الجميلة، وعدد من الحرفيين كما أطلق أسماءً في هذا العالم، منهم حسام شيا، الذي يعمل في أبو ظبي اليوم وينظم «سمبوزيوم» هناك، وطوني فرح، الذي تزيّن منحوتة له مدخل محلات «هارودز» في لندن. هذه المنحوتة استقى فكرتها من عمل قام به خلال مشاركته في سمبوزيوم عاليه الذي أطلق الكثيرين، ومنهم حرفيون أيضاً.



من يحمي المنحوتة؟

يحق لمدينة عاليه أن تفتخر اليوم لأنها تحتضن عملاً فنياً بقيمة «أزهار الشر». لكن السؤال هو هل سيحافظ أهالي المدينة، أو زوارها، عليه؟ تجربة منحوتات «السمبوزيوم» لا تشجّع، إذ تكفي زيارة إليها لنكتشف حجم الأذى اللاحق بها من كتابات ورسوم شوّهتها.
تقول إيمان حميدان إن المطلوب ربما جلسات توعية من البلدية مع الأهالي لكي تصبح منحوتات «السمبوزيوم» جزءاً من يومياتهم. أما رئيس البلدية وجدي مراد، فيرد الأمر إلى الثقافة البيتية المعدومة. لذلك «يسلّم أمر المنحوتة الجديدة إلى «القدر». يقول «إذا «بدا تنأذى» ستكون هذه طبيعة الحياة. لا أستطيع أن أربي مجتمعاً، كما لا يمكنني أن أضع حرساً على المنحوتات بكلفة تتجاوز 30 مليوناً، فيما الأمر يحتاج إلى بعض الثقافة».