تختزن بلدة عبيه، في قضاء عاليه، القسم الاكبر والأقدم من العمارة والزخرفة الإسلامية في مناطق جبل لبنان الوسطى والجنوبية وبيروت، في عهد الدولة المملوكية، ابان تولي الأمراء التنوخيين من الاسرة البحترية لها، واتخاذهم من البلدة عاصمة لإمارتهم. وعزز من المخزون الثقافي والعمراني للبلدة اختيار الآباء الكبوشيين إياها مركزاً، وتأسيسهم ديراً وميتماً فيها، في القرن السابع عشر، وكذلك تأسيس المدرسة العالية الأميركية وكلية اللاهوت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، على يد المرسلين الأميركان.بعد عقدين من انتهاء الحرب الاهلية، لا تزال البلدة تفتقد نصف أبنائها المهجرين المحرومين من العودة اليها، عدا توزع ثلثي ابنائها في المهاجر، بدليل عدم تجاوز عدد المقترعين في الدورات الانتخابية الثلاث الماضية الألف من اصل ما يزيد على اربعة آلاف ناخب مسجلين في القيود.
في عبيه، أطلال شبه دارسة وعمائر لا تزال على حالها، رغم تشققات ضخمة في بنيتها المعمارية الزاخرة بالمكونات التراثية والأثرية، من الايوان الى القصر والجامع والحمام والخان والقبة وسبيل الماء والجسور وغيرها. فرصة وحيدة واخيرة تلوح للحفاظ على هذه الأبنية، بالتزامن مع بدء الصندوق المركزي للمهجرين بدفع الاموال المخصصة لاعادة البناء والترميم والاخلاءات، في غضون الشهرين المقبلين، وذلك بعدما انجزت وزارة المهجرين المصالحة وتوقيعها في السرايا الحكومية اواخر العام الماضي.
30 مليون ليرة حددها قانون المهجرين لترميم المبنى، سواء كان تراثياً او حديثاً. يعترف رئيس صندوق المهجرين فادي عرموني بأنه «رغم ما يقارب العشرين عاماً على بدء العمل بعودة المهجرين، تبدو هذه المساعدة المالية لاعادة الاعمار متواضعة قياساً الى الاسعار الحالية لكلفة البناء». ويضيف «المساهمة الشخصية كانت الجزء المكمل للوحدة السكنية خصوصاً لمن التزم اعادة احياء التراث المعماري لحفظه ثروة مصونة». كلام عرموني جاء خلال مؤتمر «عودة عبيه الى تاريخها» الذي عقد الاسبوع الماضي في البلدة بدعوة من جمعية إحياء تراث عبيه وبلدية عبيه، وبالتعاون مع وزارة المهجرين والصندوق المركزي للمهجرين. الجلسة الابرز في المؤتمر كانت لعرض المشاريع الاكاديمية التي انجزها طلاب معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية. تقترح هذه المشاريع وظائف سياحية وتجارية وثقافية مستقبلية للأبنية التراثية في البلدة.
غالبية مشاريع الطلاب ركزت على تصورات اوجه استخدام سوق عبيه القديم وترميمه. وتلفت المشرفة على مشاريع إعادة ترميم الآثارات في عبيه د. سمر مكي الى تعدد وتنوع تصورات الطلاب للسوق القديم وأوجه استعماله، فمنهم من اقترح تحويله الى متحف تاريخي ومركز للتسوق، ومنهم من اقترح انشاء معمل انتاج لخيطان الحرير، ومنهم من اقترح تحويله الى معمل لصناعة المشروبات الروحية، ومركز تسوق للعرق والنبيذ والمأكولات العضوية. جميع هذه المشاريع ربطت السوق القديم بخريطة وخطة للسياحة البيئة في البلدة، من خلال انشطة التجول في الطبيعة، ومسار لركوب الخيل، ومنطقة للتخييم وبيوت ضيافة ومطاعم وفنادق وغيرها.
رئيس جمعية احياء تراث عبيه نديم حمزة أكد لـ«الأخبار» أن هذا المؤتمر هو استكمال لمؤتمرات سابقة عالجت تاريخ عبيه وتراثها، وسيستكمل بجولة على الجهات المانحة للحصول على تمويل يسهم في ترميم الابنية التراثية، وأولى بوادر تجاوب الجهات المانحة، وعد قطعه الصندوق الكويتي للتنمية بترميم عدد من الابنية التراثية، ونأمل ان يكون ذلك حافزاً لمواصلة الجهود من باقي الهيئات والدول المانحة.
وهنا يلفت حمزة الى أن عدداً من ابناء البلدة المغتربين في المملكة العربية السعودية يسعون إلى تأمين هبة لترميم المباني في البلدة، خصوصاً ان ابن البلدة فؤاد حمزة (1899 – 1951) كان وزير خارجية ومستشار الملك عبد العزيز آل سعود.
ابنية تاريخية عدة تحتاج الى ترميم في البلدة، ابرزها «القصور المشرفة»، وهي مبان فيها بقايا اقبية عقود وأطلال علالي، كانت تسمى قديماً حارة «إعبيه» التنوخية، وتشتمل على قاعة الأمير جمال الدين حجي، وعلى مدخلها اقدم شعار لآل تنوخ يعود لأواخر القرن الثالث عشر، وهو عبارة عن «رنك» مملوكي متمثل «بالسبع المار» المربوط بسلسلة، اضافة الى نقوش فن الخط العربي والزخارف الهندسية والنباتية التي تزيّن واجهات المبنى. وتجدر الإشارة الى ان هذه الزخرفة اتُّبعت في ما بعد في كل قصور الاقطاعيين في جبل لبنان. ويؤكد علماء الآثار أن هذه القصور إنما هي موقع اثري يعود للقرن الثامن ميلادي، قد تكون حفرية علمية فيه مثمرة جداً. كذلك يشتمل الموقع على دارة الأمير سعد الدين خضر، وإضافات ولده الأمير ناصر الدين الحسين. ولقد آل هذا البناء الى الأمير جمال الدين عبد الله «السيد». والى جانب هذا البناء قاعة يعود بناؤها للأمير ناصر الدين الحسين، كانت مقعداً دينياً يدرس فيه «الأمير السيد» وتحول عن طريق الإرث الى كنيسة على اسم مار سركيس وباخوس، ويعود تاريخ البناء الى النصف الاول من القرن الرابع عشر. كذلك يحتوي الموقع على حمام عربي بناه ناصر الدين الحسين سنة 1325 ميلادية، وعلى قناة تصل من «شاغور» عبيه الى عين الحمام وتعود للأمير الحسين سنة 1317 ميلادية.
المعلم الابرز في هذا الموقع مسجد وقبة تحولا بعد وفاة الأمير السيّد 884 هـ، ودفن جثمانه في المسجد، إلى مقام يزوره الآلاف من دروز لبنان وسوريا سنوياً للتبرك والصلاة. يعود جزء من ملكية هذه المباني الى الاوقاف الدرزية، لكن الجزء الاكبر املاك خاصة ادخلت على لائحة الجردة العامة بقرار وقعه الوزير سليم وردة في الأول من حزيران الماضي، ولقد وعد الوزير الجديد غابي ليون بأن تكون وزارة الثقافة شريكاً اساسياً في الحفاظ على هذا الموقع الاثري والمساهمة في ترميمه، وذلك بعدما نفّذ فريق من الوزارة بإشراف المهندس خالد الرفاعي عملية توثيق واسعة لمحتوياته.
ومن الابنية التي تسابق الوقت، بين الاسراع في عملية الترميم أو التداعي، ما يعرف بـ«إيوان عبيه» وهو بناء تنوخي يعود للقرن الخامس عشر مع اضافات أجراها الأمير قعدان شهاب عليه، ويعرف في مديرية الآثار بقصر الأمير قعدان، هو ملك ورثه الدكتور جميل كنعان وآل نعمه. ولقد خصصت له وزارة المهجرين مساعدة اضافية لترميمه، لكنه بالتأكيد يحتاج الى اموال اضافية من الجهات المانحة.
مقابل «الإيوان» ينتظر الآباء الكبوشيون تسلّم المبنى الذي يشغله حالياً المركز الوطني للتنمية والتأهيل، وهو المبنى التراثي الوحيد الذي تمت المحافظة عليه بسبب وجهة استعماله مركز تأهيل لضحايا الألغام وإيواء للمعوقين. يحتوي المبنى على سرايا معروفة بالنسبة إلى اللوحة التي تؤرخ بناءها باسم سرايا الامير منذر بن علم الدين سليمان، متولي بيروت في عهد الأمير فخر الدين، لكن هذه السرايا هي اقدم من الامير منذر وتعود لجده سيف الدين شقيق السيدة نسب التنوخية، وقام هو في مطلع القرن السابع عشر بإضافات منها برج للحمام الزاجل. وليس معلوماً ما هي وجهة الاستخدام المستقبلية التي سيؤول اليها هذا البناء، علماً بأن الآباء الكبوشيين يمتلكون الى جانب هذا الصرح، اكثر من 70 عقاراً وعدداً من الكنائس ودير في البلدة وسبق لهم ان اداروا مراكز للتدريب المهني وميتماً في البلدة.



عبيه عاصمة بيروت

يجمع المؤرخون على ان عبيه هي عاصمة لإمارة الغرب التنوخية. من أشهر الأمراء التنوخيين في فترة الحكم المملوكي الأمير ناصر الدين حسين 668 ـــــ 751 هـ. وهو أهم الأمراء التنوخيين في النصف الاول من القرن الرابع عشر، وكان له الفضل في الحفاظ على إمارة الغرب إمارة إقطاع وراثية بالرغم من تناقض ذلك مع مفهوم المماليك للإقطاع، حيث تمكّن من إقناع نائب السلطنة في دمشق باستثناء منطقة الغرب من «الروك»، اي مسح الأراضي لإعادة توزيعها إقطاعيات على الأمراء المماليك. التزم الأمير الحسين بالمثاغرة عن بيروت والحفاظ على الأمن فيها وعلى الساحل الممتد من نهر الكلب شمالاً حتى الدامور جنوباً، وكان ينزل هو وأقرباؤه اليها ابدالاً، ويمدح احد الشعراء الأمير المذكور قائلاً: بإحسانك المشهور بيروت بـلدة / على الساحل المعمور صار لها ذكر. تبسم عجباً ثغرها وترنّحت/ معاطفها تيهاً وجـلّلها البشـر.



مركز فان دايك

أنشأ المرسلون الأميركان المدرسة العالية الأميركية في عبيه التي انتقلت لاحقاً الى بيروت وسميت الجامعة الأميركية في بيروت. الى جانب هذه المدرسة التي اضاف اليها الانجيليون انشاءات حديثة ملاصقة لمبنى تنوخي قديم، كنيسة تم بناؤها سنة 1849 وهي من أقدم المباني الإنجيلية في الشرق الأوسط. ومن المتوقع أن يبادر المجمع الاعلى للطائفة الانجيلية في لبنان وسوريا الى تحويل هذا البناء الى «مركز فان دايك للتراث» تكريماً للمُرسَل كارنيليوس فان دايك الذي كان يعلّم في عبيه منذ صيف 1843، واحتُفل برسامته قسّيساً في عبيه في 14 كانون الثّاني 1846. وعلى لائحة المانحين المرشحين لترميم هذه المدرسة والكنيسة الوكالة الاميركية للتنمية الدولية.