ثلاث دورات انتخابية غيّرت الكثير في قرى لبنان. يلاحظ من يتنقل فيها اللمسات التي أضافتها البلديات إليها. طرقات واسعة، أشجار على جانبي الطريق، حدائق كبيرة أو صغيرة حيث أمكن، قصور بلدية، مراكز ثقافية، أرصفة، وأخيراً أقواس نصر ولم لا... «باب حارة» على غرار المسلسل السوري الشهير. المشاريع أعلاه ترد كلّها في إطار الأفكار التجميلية التي تضعها معظم البلديات على جدول أعمالها. قد يمكن النقاش في جدوى بعضها أو عدمه، أولويتها أو عدمها، وحتى جمالياً تبقى المسألة خاضعة للذوق، وهذا ما يقوله المهندسون الذين سألناهم تحديداً عن أقواس النصر والأبواب (أو البوابات) التي تزيّن بعض مداخل القرى. إلا أن النقاش يأخذنا إلى ما هو أعمق من ذلك، وهو أزمة الدور الذي تعيشه البلديات. هل تعي البلديات حجم الدور التنموي المطلوب منها القيام به، والذي تستطيع أن تلعبه؟ ولم تهرب منه إلى مشاريع تجميلية تغلّب «الصورة» على المضمون؟
نقاشنا يبدأ بـ«الشكل»، أو بـ«الصورة». يؤكد المهندس جلال عبد الله، استشاري في اتحاد بلديات جبل عامل، أن البلديات تضع التجميل ضمن أولوياتها، ويصنّف أقواس النصر ضمن هذه الأمور التجميلية. ولدى سؤاله عن أقواس النصر، يقول إنه صمّم قوساً لبلدة رب ثلاثين (مرجعيون): «كانت البلدية ترغب بتقديم تحية إلى شهدائها الذين سقطوا لتحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي، فرفعت قوس نصر عند مدخلها وكتبت اسم شهدائها عليها للدلالة على العزّة والافتخار». لا يعطي عبد الله الموضوع أكثر من حجمه. «قوس النصر مثله مثل الرصيف مثل التمثال». موقفه النقدي كمهندس يقدّمه على شكل نصيحة للبلدية بحيث يكون الإنجاز الهندسي متناسقاً مع محيطه. أما رأيه الشخصي فيقوله بمنتهى الدبلوماسية: «نحن نحتاج إلى تراكم عمل بلدي قبل أن نصل إلى ما نطمح إليه فعلاً على صعيد إنتاج مشاريع حقيقية».
هذه المشكلة لمسها المدير العام لشركة «آرش» المهندس وليد جابر لمس اليد. هو عضو سابق في بلدية برج البراجنة، تجربته في العمل البلدي جعلته يكتشف خللاً أساسياً في عمل البلديات: غياب التخطيط. لذلك وجّه شركته للعمل مع البلديات وهي تتعامل اليوم مع أكثر من 30 بلدية في البقاع والجنوب، تقدّم لها الاستشارات والدراسات الهندسية. يقول: «تشعرين بأن عمل البلديات يكاد يقتصر على تسيير أمور الناس الآنية. طريق تحتاج إلى تعبيد، قسطل مياه بحاجة إلى تصليح، إلخ. في المقابل، تعتقد البلديات خطأ أن لا جدوى من دفع الأموال وإعداد دراسات لإنجاز خطط ومشاريع نضعها في الأدراج في انتظار جهات مانحة».
هذا الأمر نجحت فيه بلدية الغبيري التي كانت قد أعدّت عدداً من الدراسات «وبعد حرب تموز 2006، تقدّمت العديد من الجهات بمنح مشترطة وجود مشاريع ودراسات، فكانت بلدية الغبيري هي صاحبة المشاريع المعدّة سابقاً وربحت لأنها أدركت أهمية التخطيط».
نتيجة هذا الخلل التفتت «آرش» إلى هذا الأمر وعرضت التعاون على البلديات لسدّ هذه الثغر لديها، لكن ما هي طبيعة المشاريع التي تقدّم لها «آرش» الدراسات؟ خصوصاً أن الإعلانات التي نراها في بعض المجلات هي أيضاً لأقواس نصر؟
يضحك جابر. هو أيضاً من أنصار فكرة أن «قوس النصر مثله مثل الرصيف أو الجزيرة التي نضعها في وسط الشارع ونزرعها بالورود». يقدّم مثلاً عن قوس نصر أعدّته شركته لمدخل الهرمل، بناءً على طلب من اتحاد بلديات الهرمل «ويفترض أن يحفظ ذاكرة المقاومة».
في المقابل، يلفت جابر الى ن دور «آرش» الاستشاري يجعلها تضع سلّم أولويات للبلديات بالمشاريع التي يفترض أن تهتم بها، وهي تتدرّج برأيه وفق الآتي: صرف صحي، تأمين مياه شفة، حدائق، بناء مراكز (صحة، رياضة، ثقافة)، بناء نواد، سوق خضر، موقف عام، إلخ. ومن المشاريع التي يجري العمل عليها حالياً المدينة الصناعية في بعلبك، عوض أن تبقى كلّ المحلات عند مدخل المدينة.
في مشروع مماثل، هل تلتفت البلدية والشركة التي رست عليها مناقصة الدراسة، إلى إمكان تقبل أصحاب المحلات لهذه النقلة؟ هل تكون هناك خطة لحفزهم على الانتقال؟ أم تتكرر تجربة تأهيل الحي المحيط بقلعة بعلبك، إذ لا يزال الحيّ المرصوف شبه خال من المارة فيما يعجّ السوق الشعبي القديم بالمارة كأن شيئاً لم يكن؟ يؤكد جابر أهمية الالتفات إلى هذا الجانب والعمل على «وضع خطة لحفز أصحاب المحلات على الانتقال إلى المدينة لاحقاً».
النقاش مع عبد الله وجابر يلامس المشكلة، إلا أنه لا يضع الأصبع على الجرح تماماً. أستاذ التنمية الاقتصادية والمحلية في الجامعة اللبنانية الدكتور جهاد فرح يقدّم شرحاً وافياً. فرح أنجز عدداً من الدراسات حول البلديات، أولاها كانت أطروحته وتناولت بلدية الشياح، ولاحقاً شارك في دراسات مع طلابه كما مع مراكز ابحاث أخرى لدراسة جوانب متعددة من العمل البلدي في لبنان كما في عدد من مدن الشرق الأوسط.
يعيد فرح سبب قيام البلديات بإقامة تماثيل، إنشاء الحدائق أو إقامة البوابات وأقواس نصر عند مداخل القرى إلى الرغبة في «الإعلان عن وجودها. هذه أمور تعطيها شرعية أمام الأهالي، تستطيع أن تقول لهم إنها قدّمت لهم شيئاً من خلال ما يرونه أمامهم، ما يظهر لهم».
الحديث عن «الوجود» و«الشرعية» ليس هامشياً في تحليل فرح، حتى وإن كنا نحكي عن البلديات بعد ثلاث دورات انتخابية. فهذه السلطات المحلية فقدت كل شرعيتها خلال الحرب، وحين استعادتها بعد الحرب كانت أمور كثيرة قد تغيرت، منها الجغرافيا، الديموغرافيا، العائلات، الأحزاب... الحصول على الشرعية يتطلب ظهوراً في المكان وفي «الفضاء» بما يعني أن الموضوع أعمق قليلاً من بناء بوابة أو جدار تجميلي. لكن فرح، وإن تفهم هذه الحاجة إلى الشرعية من خلال المشاريع التجميلية، لا يعتقد أن الأخيرة قادرة على خلق مساحة جغرافية معينة عندها هوية وإمكانية إنتاجية معينة (المتعارف عليه بمصطلح territoire). لأن المطلوب هو العمل على إيجاد مساحات للتنمية. وهذا ما باتت تفعله أخيراً اتحادات البلديات «نلاحظ منذ أربع أو خمس سنوات هجمة من قبل الاتحادات على مشاريع إنتاجية تحصل بتمويل من جهات مانحة وبتوأمة مع مدن أخرى، وفي هذه المشاريع يبرز الجانب الاقتصادي والتنموي خصوصاً في بلدات الضنية وعكار والفيحاء».



أزمة هوية

يرى الأستاذ في الجامعة اللبنانية د. جهاد فرح أن السؤال عن بوابات القرى، أو أقواس النصر من منطلق جمالي ليس أساس الموضوع. يقول: «أنا لست مقتنعاً بأن هناك شيئاً معيّناً جميلاً أو غير جميل، فهذه مسألة ذوق.
والتشديد على الهوية المحلية مسألة لا تقدّم أو تؤخر من ناحية الشكل لأنه بعد عشر سنوات ستكتشف البلديات أن هذا قديم، وقد ترغب في التجديد». المشكلة برأيه أن البلديات تعيش أزمة دور فتحاول التعويض بهذه الطريقة. يشرح: «وكأنها من خلال الأقواس أو الأبواب أو غيرها من الأمور، تريد أن تقول، أنا موجود وأنا أمثل هوية القرية، برأيي هذة أزمة هوية وأزمة دور». دعوتي إلى إعادة البحث في دور البلديات: كيف يمكن أن يكون مفيداً؟