تدور أحداث هذه القصة، الواقعية جداً، وغير المقتبسة إطلاقاً، تحت سقف السرايا الحكومية في وسط بيروت. «أبطالها» هم: إبراهيم ط. وناجي ج. (61 عاماً) وغسّان خ. (59 عاماً).من هم غسّان وناجي وإبراهيم؟ الأول ممثل لشركة متعاقدة مع رئاسة الحكومة لصيانة مبنى السرايا، وكل ما يتعلّق بمعدات التدفئة والتبريد والكهرباء عموماً. أما الثاني، فهو موظّف في وزارة السياحة منذ عام 1970 ومنتدب «شفهياً» من جانب بوجي، منذ أكثر من 12 عاماً، لـ«الاهتمام بمعدات التدفئة والتبريد، إضافة إلى توفير الكمّيات المطلوبة من المازوت للسرايا الحكومي». أما الثالث، فهو صاحب صهاريج لتوزيع المازوت.
قبل أكثر من سنتين، قصد إبراهيم مكتب رئيسة الديوان في مجلس الوزراء ميرفت عيتاني، وأعلمها بأنه هو من يعبئ خزانات مبنى السرايا الحكومية بكميات المازوت باستمرار، وأن ناجي هو من يطلب إليه ذلك، وأن الأخير أعطاه شيكاً مصرفياً بقيمة 250 مليون ليرة لبنانية، دفعةً عن كميات عبّأها سابقاً، علماً بأن المبلغ المطلوب كان 25 مليون ليرة فقط. وعندما راجعه بالأمر، استرد ناجي منه الشيك ونقده مبلغ 46 مليون ليرة، وأخبره بأنه سيقطع التعامل معه وسيلجأ إلى موزع آخر.
ارتابت رئيسة الديوان في الأمر؛ فالمديرية العامة لرئاسة المجلس تتعامل منذ سنوات مع أحد أقرباء ناجي، وهذا الأخير يفترض أن يقتصر دوره على توفير الكميات المطلوبة وتنظيم الإيصالات والفواتير وقبض الحوالات. راجعت قيمة الفواتير التي أبرزها إبراهيم أمامها، قبل أن تُقارنها بقيمة الحوالات المسلّمة إلى ناجي مقابل الفواتير التي كان يبرزها لتسديد ثمن المازوت، فإذا بها تكتشف فروقات كبيرة بين الكميات المعبّأة فعلاً وتلك التي قُبض ثمنها بين عامي 2004 و 2007، ليظهر لها أخيراً أن مجموع الفروقات يبلغ 747.810.708 ليرات لبنانية. هالها الأمر فأبلغت الأمين العام لمجلس الوزراء سهيل بوجي بالأمر.
وقائع هذه القصة جاءت في سياق قرار قضائي صدر أخيراً عن الهيئة الاتهامية في بيروت، وقبل ذلك في قرار ظني عن قاضي التحقيق الأول، إضافة إلى تقرير من النيابة العامة المالية، فضلاً عن «تحقيق احتيالي» أجراه بوجي مع المتهمين، قبل أن يُقرر إحالتهم على النيابة العامة.

«تحقيق» بوجي

«نرفع إلى دولتكم تقريراً عن عملية التلاعب بكميات المازوت وتزوير الفواتير، التي قام بها كل من السيدين ناجي... وغسّان... التي سبق لنا أن أبلغناكم عنها، وعن الإجراءات التي لجأنا إليها بالاتفاق مع النائب العام التمييزي وبناءً على إشارته، وذلك فور ضبط هذه العملية». بهذه الكلمات افتتح الأمين العام لمجلس الوزراء رسالته الموجّهة إلى رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، التي حصلت عليها «الأخبار»، وهي بتاريخ 11/2/2009 وتحمل الرقم الصادر 9/س.
وبعد أن يشرح بوجي في رسالته تفاصيل عملية «كشف الفساد»، يبلغ السنيورة بأنه وضع «خطة للإيقاع بكل من ناجي وغسّان، خشية هربهما، ولحملهما على الاعتراف بما كان يحصل. لذلك، جرى الاتصال فوراً بالنائب العام التمييزي وأخذ موافقته على تلك الخطة». ويضيف أنه بالفعل، أعطى «الإشارة للمدير العام في السرايا للمباشرة بتنفيذ الخطة المرسومة، بموجب اتصال هاتفي مع القاضي سعيد ميرزا، التي تهدف إلى إيهام المتهمين بأن المدير العام يرغب في مساعدتهما على «لفلفة» القضية، وأن المدّعي العام مستعد للتسامح معهما في هذا الأمر إذا دفعا قيمة الفروقات».
هكذا، لم يبادر بوجي إلى إحالة المتهمين على النيابة العامة مباشرة بعد علمه بالأمر، منصّباً نفسه «ضابطاً عدلياً» (خلافاً لنص المادة 38 من قانون أصول المحاكمات الجزائية). وبالفعل، أوعز بوجي إلى رئيسة الديوان لتصبح «محققة» في القضية. استدعت الأخيرة ناجي وغسّان إلى مكتبها، وسألت الأول إن كان يعرف إبراهيم (صاحب الصهريج) فأفاد بالإيجاب. عندها، «أخذته على جنب» وواجهته بالحقيقة، ونصحته بأن من مصلحته بالاعتراف وإبراز الفواتير ليتسنى لها الطلب إلى المدير العام مساعدته. وبعد اعترافه، طلبت منه كتابة تعهّد بخط يده بتوفير كمية 280 طناً من المازوت غب الطلب، في مقابل وعده بالتوسط له بغية مساعدته. بعد ذلك، اتصل بوجي بميرزا وطلب منه الاستمرار بالخطة المرسومة، فكان له ما طلب. وفي اليوم التالي، حضر ناجي إلى السرايا وبحوزته شيكان: الأول بقيمة 200 مليون ليرة، والثاني بقيمة 156 مليون ليرة. طبعاً، لم ينس بوجي أن يذكر في رسالته عبارة: «أنّبناه ووبخناه على فعلته، وما تشكله من عيب وعار عليه وعلى عائلته وأولاده». حصل الأمر نفسه مع غسّان أيضاً. لكن المبلغ المستعاد لا يغطي القيمة المسروقة خلال 5 سنوات، علماً أن التحقيق لم يتوسع لمعرفة كيف كانت تدار الأمور خلال السنوات الطويلة السابقة. لذلك، «هُدِّد ناجي وغسان بدورية تحرٍّ وهمية للضغط عليهما، بغية تحصيل مبالغ إضافية منهما، وإلا فإن المدير العام سيتخلى عنهما ويسلمهما»، بحسب ما قالت رئيسة الديوان. وفي ما خص غسّان، لم تتخلّ شركته عنه حقيقة، فتدخلت لدى بوجي طالبة إعطاءها فرصة للضغط على المتهم، الذي حضر في النهاية وبحوزته شيك بقيمة 200 مليون ليرة. وبعد انتهاء «الخطة الاحتيالية» أحيل المتهمان على النيابة العامة للتحقيق، مرفقين «بتحقيق لبوجي ما قبل أولي»!
بدأ التحقيق أمام القضاء. اعترف ناجي بأنه كان يطلب كميات مازوت من إبراهيم، وأنه كان «يأخذ منه فواتير بقيمتها الحقيقية ثم يُنظّم إيصالات وفواتير بكميات أكبر منها، ليتقاسم بعدها الفرق مع المدعو غسّان خ». كذلك اعترف ناجي بأنه يتولى توفير المحروقات للسرايا منذ 1973، بالشراكة مع شخص من آل الدادا، قبل أن يتولى هذه المهمة وحده منذ عام 1974 بسبب سفر الأخير. ولأنه لا يملك صهريجاً، كان خلال تلك المدة يتعامل مع أصحاب صهاريج مختلفين، وصولاً إلى عام 2004 حين بدأ التعامل مع الشخص الذي كشف الفضيحة من حيث لا يدري، بعد خطأ في قيمة الشيك الذي تسلمه. وأكد ناجي في التحقيق أن تعامله مع ناقل المازوت كان بموجب «اتفاق شفهي»! (على غرار عقده هو مع بوجي). ومما جاء في اعترافاته، أن رئاسة الحكومة كانت تطلب، مثلاً، 10 أطنان من المازوت دفعة واحدة، فيما كان هو يشتري كمية 22 طناً ويُسدد ثمنها، ثم يقبض من رئاسة الحكومة كل المبلغ المرصود لكمية 100 طن، فيتقاسم بعدها مع غسّان (وكيل شركة الصيانة) فرق الثمن.
بدوره، اعترف غسّان أمام القضاء بأنه كان يُصرح للمحاسبة بتسلم كميات تفوق تلك المسلّمة فعلاً.

مخالفات وشبهات

اللافت في هذه القضية أن أياً من المراجع القضائية التي تناولت القضية لم يستدع المسؤولين في السرايا، الذين يفترض بهم «السهر على المال العام» ومراقبة عمل الموظفين، وبالتالي لم يوجّه اتهام إلى أي منهم، ولو تحت عنوان التقصير أو الإهمال، رغم استمرار سرقة «النفط الأسود» على مدى سنوات طويلة. كذلك يبرز سؤال عن قانونية الإجراءات التي قام بها بوجي بعد انكشاف الأمر.
أحد قدامى القضاة، بعد عرض وقائع القضية عليه، أكّد أنه لم يسمع في حياته القانونية بعبارة «انتداب شفهي»، وبالتالي لم يُفهم كيف يُكلّف بوجي شخصاً بهذه الطريقة، علماً بأن المسألة «لا تتعلق بقرطاسية وأقلام ومحابر، بل بمبالغ طائلة يفترض أن تخضع للمناقصة وفقاً لقانون المحاسبة العمومية». واستغرب القاضي كيف يكون لبوجي «حق التفاوض مع المشتبه فيهم، فيما هذه المهمة محصورة بالنيابة العامة، فضلاً عن استخدام الأخير في رسالته عبارة «إعطاء إشارة»، وهي عبارة مخصصة للنيابة العامة أيضاً، وبالتالي يبدو أن بوجي نصّب نفسه في هذه القضية قاضياً ومدّعياً عاماً وحكماً وضابطاً عدلياً». وعن عبارات الـ«لفلفة والخطة والإيهام»، قال القاضي: «للأسف، هذه العبارات ليست لغة دولة ومؤسسات عامة».
«الأخبار» اتصلت بأحد المسؤولين القضائيين الذين تناوبوا على القضية، وسألته عن سبب عدم استدعاء أي من المسؤولين في السرايا لسؤاله عن الإهمال حيال المال العام. فأجاب مستغرباً: «هل تريد من القضاء أن يطلب إحضار سهيل بوجي؟ هذا ما لم يحصل سابقاً ولن يحصل الآن؛ فالمسألة، بكل صراحة، أكبر من طاقة القضاء، لأنك بذلك في لبنان، ويا للأسف، تكون تستدعي فريقاً سياسياً كاملاً أو ربما طائفة بحالها».
قضية المازوت أصبحت اليوم أمام محكمة الجنايات في بيروت، وليس فيها على لائحة الاتهام سوى ناجي وغسّان، وهما غير موقوفين بعد أن أطلق سراحهما بتاريخ 7/7/2009. وقد أصدرت الهيئة الاتهامية قبل نحو شهر مذكرتي توقيف بحقهما لسوقهما إلى المحاكمة. أما لناحية العقوبة، فقد ادّعت الهيئة على المتهمين بالجنايات المنصوص عنها في المواد 359/360/350 من قانون العقوبات. وتنص المادة 359 على أن «كل موظف اختلس ما وكل إليه أمر إدارته أو جبايته أو صيانته بحكم الوظيفة، من نقود أو أشياء أخرى للدولة أو لأحد الناس، عوقب بالحبس من 3 أشهر إلى 3 سنوات وبغرامة أقلها قيمة الردود».



بوجي: للقضاء أن يُقرر

اتصلت «الأخبار» بالأمين العام لمجلس الوزراء سهيل بوجي، وسألته عن كيفية استمرار سرقة أموال المازوت العائد لمبنى السرايا الحكومية لسنوات طويلة، من دون أن يلاحظ ذلك هو أو أي من الموظفين هناك البالغ عددهم 200 شخص؟ فوجئ بوجي بداية بوصول القضية إلى الإعلام، مفضلاً عدم الخوض في التفاصيل. واكتفى فقط بالإشارة إلى أن الملف أحيل على القضاء، وبعد ذلك «لا يحق لنا التكلم، وما يقرره القضاء أنا حاضر للانصياع إليه». يفاجأ مجدداً عندما تقرأ عليه بعض من سطور رسالته «الداخلية» إلى رئيس الحكومة، فيقول: «حسناً، بما أن لديكم الرسالة، فلديكم كل شيء ولا داعي لأن أضيف شيئاً».
يُذكر أن بوجي يحمل دكتوراه في القانون العام من جامعة باريس، وقد تدرج في عدّة مواقع رسمية: عضو في لجنة المعادلات للتعليم العالي، مستشار قانوني لرئاسة مجلس الوزراء، أستاذ جامعي، قاضٍ في مجلس شورى الدولة، قبل أن يسمّيه الرئيس رفيق الحريري مديراً عاماً للمديرية العامة لرئاسة مجلس الوزراء عام 2000. وحين قدّم رئيس الحكومة السابق سعد الحريري تشكيلته الحكومية الأولى إلى رئيس الجمهورية، كان سهيل بوجي واحداً من الوزراء الواردة أسماؤهم (وزيراً للعدل). وأمام تعاظم نفوذ بوجي، أيام حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، أثيرت مسألة عدم قانونية شغله لمنصبه. ومن ذلك، أن نص المادة 16 من قانون مجلس الشورى لا يجيز لأي قاضٍ من المجلس أن يُنتدب لوظيفة خارج المجلس لأكثر من 6 سنوات، وقد تجاوز بوجي هذه المدة خلافاً للقانون.
من جهة أخرى، اتصلت «الأخبار» بوكيل ناجي المحامي سعيد الزين للوقوف على رأيه، فلم يرغب في الحديث عن الموضوع، وكذلك فعل وكيل غسّان المحامي بيار حنا. أما وكيل إبراهيم، المحامي أشرف الموسوي، فأكّد أن الهيئة الاتهامية منعت المحاكمة عن موكله، «لعدم وجود دليل على وجود دور له في الاختلاس والتزوير الحاصل»، وبالتالي «ثبوت براءته».




لماذا لم يُحقق مع الموظفين؟

كان لافتاً أن التحقيق في قضية سرقة أموال المازوت في السرايا الحكومية اقتصر على متهمين اثنين فقط، فيما المادة 56 من قانون ديوان المحاسبة تحدد بأن الرقابة على الموظفين تشمل «أعمال كل من يقوم بإدارة أو استعمال الأموال العمومية والأموال المودعة في الخزينة، وكل من يقوم بعمليات القبض والدفع لحساب الخزينة أو لصالحها أو بمسك حساباتها من غير الموظفين، وكذلك أعمال كل من يتدخل في إدارة الأموال المذكورة وفي القيام بالعمليات السالفة الذكر دون أن تكون له الصفة القانونية». كذلك يُعَدّ بحكم الموظف، في تطبيق أحكام الرقابة، كل شخص من غير الموظفين «عهد إليه تولِّي المهام، أكان ذلك بالتعيين أو بالانتخاب أو بالتعاقد، بما في ذلك أعضاء الهيئات التقريرية بمناسبة تولِّيهم المهام المذكورة، وكل شخص من غير الموظفين تولى هذه المهام أو تدخَّل أو ساهم فيها دون صفة قانونية».