تحوّل بطيخ عدلون الجنوبية إلى «ماركة مسجّلة» في بلاد الاغتراب. لا شجرة الأرز ولا حتى الآثار تفوقه شهرة هناك. فقد وصل هذا البطيخ إلى أميركا وأوستراليا وألمانيا وفرنسا ودول الخليج. هناك، بات بإمكان المغتربين من أبناء عدلون شراء بطيخ بلدتهم من محال بيع الخضر الكبرى ومن البسطات، تماماً كما يشترون سائر المنتجات الزراعية العالمية. ويروي أحد أبناء البلدة أنه مرّ ببائع خضر وفواكه أثناء زيارته مصر، وسمعه ينادي «تعالى شوف... بطيخ عدلوني». وعندما سأله، اتضح له أن «البطيخ مزروع في مصر، وليس مستورداً من عدلون». لكن شهرة «بطيخاتنا سبقت وصارت ماركة». فكيف تحول بطيخ عدلون إلى ماركة مسجلة؟«السبب نوعية تربة السهل الزراعي الساحلي الممتد من خيزران نحو القاسمية، وهي التي تتنوع بين التربة الخصبة السوداء والرملية»، يجيب المزارع أحمد عوالي، وهو الذي ورث زراعة البطيخ عن والده. ويضيف: «ما يعزز من جودة هذه التربة الأمطار ومشروع نهر الليطاني للري المحاذي».
عوالي الذي رفض التخلي في مرحلةٍ ما عن ذلك «الإرث» الذي اشتهر في مسقط رأسه، يعرف اليوم أنه آخر من حافظ على الطرق «الكلاسيكية» في زراعة البطيخ، متحدياً الأساليب الحديثة في تهجين البذور والري بالتنقيط وزراعة الأنفاق. هذه الطريقة التي تبدأ مع فصل الخريف، حين يباشر بتجهيز حقله لزراعة البطيخ. بعدها، يحرث الأرض ويفرشها بالسماد المكون من «زبل» الماعز. وقبل انتهاء الخريف وبداية الربيع، يترك عوالي الأرض على هذه الحال، حتى تتخمر التربة بالسماد. ومع بداية شهر نيسان، يحرث الأرض مجدداً لكي تمتزج مكوناتها وتصبح جاهزة لزرع بذور البطيخ.
وللبذور أيضاً طريقة خاصة في الإعداد. فهي، وإن كانت تستورد من الخارج، ولا سيما من أميركا وهولندا وإيطاليا، إلا أنها تخضع هنا للأسلوب البلدي في تعريضها للشمس أولاً، كي تصبح أكثر جفافاً، قبل أن تبل بالماء وتدرس في الحقل. بعد الزرع، يحتاج البطيخ إلى أرض رطبة من الداخل، لكنها معرضة للشمس، كذلك يحتاج إلى ما بين 70 إلى 75 يوماً كي ينضج تماماً إن كان بطيخاً «بعلياً».
هكذا، هي الطريق الكلاسيكية كما يصفها عوالي. بعدها، يقطف موسمه الذي يصادف في مثل هذه الأيام. يتميز البطيخ العدلوني بأنه «مزيّح... زيح أخضر وزيح بين الأخضر والأبيض». أما وزنه فيختلف؛ فمنه الصغير، ومنه الكبير الذي قد يصل وزنه إلى أكثر من 20 كيلوغراماً. أما من الداخل، فلونه أحمر قان وبذوره صغيرة سوداء ومذاقه حلو أكسبه صفة «البقلاوة».
لكن «تجربة» بسيطة على البطيخ العدلوني قد تظهر عكس ما يقوله الرجل؛ فمعظم «الشروط» التي ذكرها ليست متوافرة؛ فالشكل تغير ليصبح أقرب إلى اليقطين والقرع، واللون الخارجي بات أخضر قاتماً. أما من الداخل، فبات يميل إلى الزهري الفاتح، فما الذي أصاب البطيخ العدلوني؟
يشير حسن غزلة (66 عاماً) إلى أن البطيخ لم يصمد أمام الطرق الحديثة في الزراعة التي تسعى إلى الربح الوفير على مدار السنة. المزارع الذي يعرف البطيخ العدلوني عن كثب منذ خمسين عاماً، «يحرّف» اليوم في صفاته الأصلية. فقد أقلع عن الزراعة البعلية وتحول إلى الزراعة في «الخيم البلاستيكية» التي تعتمد نظام الري بالتنقيط وتشترط استخدام كميات هائلة من المبيدات، فضلاً عن أنها تتحدى أشعة الشمس المباشرة، التي تمثّل أهم شرط لإنتاج بطيخ عدلوني. فضلاً عن ذلك، لم يعد الرجل يزرع البطيخ بذراً، بل اختصر الوقت وبات يزرعه شتلاً، ليس في نيسان، بل قبل شهرين، أي في شباط كي يقطفه في حزيران. وبناءً عليه، إن المختبرات والمشاتل هي التي تقرر «هوية» البطيخ مسبقاً، عبر لجوئها إلى تطعيمه ببذور القرعيات من اليقطين والقرع حتى الكوسى، لأهداف تجارية.
اضطر غزلة إلى تغيير عاداته الأصيلة لأسباب عدة، أولها أن الزراعات «البلدية» لم تعد كافية لتلبية حاجات السوق التي تضاعفت عما كانت عليه قبل خمسين عاماً. فالسوق ذاته لم يعد محصوراً بعدلون، بل بات مفتوحاً على التصدير أيضاً، وباتت المنافسة قوية من مناطق أخرى امتهنت لاحقاً هذه الزراعة مثل الوزاني والبقاع. أما تحدي التغير المناخي، فتلك مصيبة أخرى؛ لأن الأمطار صارت تسقط في أيار وحزيران، والطقس الخريفي صار يغلب على تلك الفترة، الأمر الذي يضرب موسم البطيخ البعلي أيضاً. وفي ظل هذه التحديات، استعان مزارعو البطيخ بزراعات أخرى لتدعيم قدرتهم الاقتصادية، فزرعوا الموز بديلاً. وهكذا، اجتاح شجر الموز حقول البطيخ في عدلون الذي لم يعد سيد الحقل.