غافٍ عند حافة القبر الرخامية. لا شيء يحمي جسده النحيل من لسعة الشمس المتسربة إليه من بين الثقوب إلا القميص البنفسجي المغسول بعرقه. يدسّ يداً تحت رأسه وأخرى يرخيها فوق صدره التعبة أنفاسه. بان الكبر على تلك اليد المخطوطة بالعروق الخضراء، كما بان على الوجه الذي لم تعد تظهر منه إلا اللحية الكثة التي أطلقها منذ 6 سنوات، بعدما قضى ابنه حسن في حادث سير مع آلية للدفاع المدني في منطقة المريجة.
نايف شمص، الوالد الذي فُجع بالابن العائد من السعودية في إجازة صيفية، لم يعد يجد الراحة إلا تحت القرميد الذي يظلل القبر في روضة الشهيدين. احتمالان آخران قد يعوّضانه الرحيل «إما تحصيل الحق بالقضاء أو آخذه باليد»، يقول. احتمالان لا ثالث لهما، والخوف ألا يبقى إلا واحد: «الدم»، فيما لو استمر التعامل مع قضية الابن والدفاع المدني التي تسلك طريقها أمام القضاء منذ حزيران 2005، على حاله. وهي القضية التي لم يحصل فيها إلا جديد واحد، بالكاد يفي بالغرض، وهو ادعاء النيابة العامة أخيراً على شخصين في جهاز الدفاع المدني هما المدير العام السابق للمديرية العامة للدفاع المدني درويش حبيقة ورئيس مركز الدفاع المدني في منطقة المريجة ع. ش. منذ 6 سنوات، والحال في بيت حسن لم تتغير. كأنه غاب للتو. والآن «لا شيء قد يحمي الفاعلين إلا السجن»، يقول الوالد، ثم يخفض الرأس نحو الأرض وعيون أبنائه مصوبة نحوه. عيون خائفة من فقدانٍ إضافي.
مرة واحدة، شعرت فيها العائلة بأن الغياب قد يُعوّض. كان ذلك منذ 3 أشهر عندما ادّعت النيابة العامة على الرجلين ـــــ من دون الادعاء على السائق ط. ع. لكونها اكتفت بمدة سجنه الأولى ـــــ بالتسبب في القتل. استندت في ادعائها إلى عدة «أدلة»، ليس أقلها إعطاء بطاقة «سائق» لمتطوع مبتدئ بالكاد مر على تطوعه 7 أشهر، ومن دون أن يكون حائزاً في الأصل على دفتر سوق عادي. استبشروا خيراً مع بدء جلسات الاستجواب. لكن، لم تُعقد الا جلسة واحدة واستجوابان يتيمان، لم تكن النتيجة فيهما واحدة بين «المدير» و«الرئيس». ففي الاستجواب الأول الموقع من المحامي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي ماهر شعيتو، اختصر حبيقة الطريق بالقول إنه لا يستطيع تحديد «ما إذا كان السائق قد ارتكب خطأ أو لا». ليضيف أن «ط. ع. يحوز بطاقة سائق من المديرية موقعة مني، فالرخصة التي أصدرها برأيي تخول من أعطيته قانوناً قيادة آليات الدفاع المدني حصراً، وقد اضطررنا لاتباع هذه الآلية نظراً لضعف امكاناتنا المادية واستحالة اشتراط استحصال العنصر على رخصة سوق شاحنة من المصدر المختص لكلفتها العالية». وهذا مخالف للقانون، فخلفه العقيد إيلي أبي طايع يؤكد أنه لا يمكن إصدار بطاقة سائق دون اتباع النظام العام لهيئة إدارة السير والآليات، لأن «المديرية العامة تتبع النظام العام في إصدار الرخص». وبحسب هذا النظام «يجب أن يكون سائق هذه الآلية حائزاً على دفتر توت مارك، ما يعني المرور بعدة مراحل، تبدأ بالدفتر الخصوصي ثم العمومي ثم 10 طن وبعدها توت مارك». كل تلك المراحل تخطاها العميد بتوقيع، مستنداً إلى الدورات التدريبية التي تقوم بها المراكز و«ذمة» رئيس المركز. هذه الذمة التي قيست في بعض الأماكن على هوى «التقديرات»، إذ يقول ش. في الاستجواب إن «ط. ع. لم تكن في حوزته رخصة سوق على الإطلاق وكان يكتفي لقيادة الآلية بالرخصة الصادرة عن المدير العام والتي صدرت بناءً على إفادة رفعتها إليه ومستندة إلى دورات مكثفة مدتها شهران. وأقدر بعدها أهليته للقيادة». تقديرات بالكفاءة، ولا شيء آخر. هكذا هي الحال منذ عام 2005، عندما توفي حسن. لكن، ثمة فارق، فلحظة الوفاة، لم تكن ثمة نوايا مبيتة ضد أحد. كان المطلب واحداً: معرفة من تسبب في قتل الابن. يومها كانوا سيقتنعون بفكرة «القضاء والقدر»، لكن الأمور سرعان ما تكشفت. كان أولها ليل الحادث نفسه: طريقة استدعاء العائلة إلى مكان الحادث. في ذلك الليل، اتصل شاب من استخبارات الجيش بشقيق حسن وقال له «تعا خود خيك عن الطريق». لم يخبره عن موته إلا تلك الكلمات، لا العنوان ولا حتى الشارع. يومها، هامت العائلة على الطرقات باحثة عن «ميت». ثانياً: القصة، فهم لم يعرفوا عن الحادثة إلا بعد وقت من الجيران ومما جمعوه من معلومات، فلا شيء كان يدل على أن الحادث كان مع آلية من الدفاع المدني، فقد كانت مركونة في مركزها ولا آثار دماء عليها، وعندما طلب الخبير والمحامية رؤيتها كانت مغسولة. ثالثاً: تقارير الخبيرين اللذين عاينا المكان. فتقرير الخبير الأول روجيه شلهوب كان مبنيا بمجمله على عبارة «قيل لي»، أما الخبير عفيف حمدان، فقد اختصر تقريره بالقول إن «إنجار هذا التقرير قائم على الاستنتاج».
كبرت مساحة الشك، خصوصاً بعد الاستماع الى استجوابات المعنيين. نبدأ مع ط ع، الذي قال شارحاً الحادثة «بينما كنت في المركز، وبسبب نقص خزان الآلية التي أقودها لكونها كانت في مهمة وذهبت لتعبئتها». وفي افادته للخبير روجيه شلهوب، قال إنه كان في مهمة لإطفاء حريق منزل بحي السلم، وفي طريق العودة لتعبئة الشاحنة صدم الشاب. وفي استجواب الشاهد جميل رضا، قال «كنت برفقة ط. ع. في مهمة اطفاء حريق في محل للأدوات المنزلية في تحويطة الغدير». استجواب ثالث للمخفر قال فيه إن «الشاحنة كانت متوقفة في المركز». استجواب رابع لرئيس المركز ع. ش. قال فيه إن «ع. كان في امر مهمة إخماد حريق». لكن، اذا ما عدنا الى امر مهمة اطفاء ذلك الحريق، والذي حمل الرقم 1081، فإن اسم ط. ع. لم يرد فيه. اكثر من ذلك، ورد في استجواب أحد الشهود ان ط. ع. «كان يلبس فانيلا وشحاطة». اذاً، لا مهمة اطفاء. ثمة شيء آخر، وهو «مخالفة نظام البلدية، اذ عبرت الشاحنة من الممر الممنوع المرور فيه لكونه ممراً ضيّقاً جداً بالكاد يتسع لسيارة، حتى لو كانت الحالة طارئة»، كما تشير امينة سر الشرطة في بلدية المريجة لميس عويدات.
لكل هذا، أصرت العائلة على متابعة الدعوى قضائياً، رغم وساطات المصلحين.. الى ان صدر حكم ابتدائي بعد مرور سنوات على الحادثة قضى بحبس ط. ع. سنة لارتكابه «جنحة» وتعويض للعائلة. يومها، رفضت العائلة الحكم، وقبل أن يصدر الحكم المبرم «جاء قاض بالتكليف في الفترة الفاصلة بين التعيينات وحكم بفسخ العقد الاول بأقل من اسبوع على تسلمه الملف، واكتفى بمدة حبس السائق 5 اشهر مع العلم ان مدة السجن بحسب القانون تراوح بين 6 اشهر و3 سنوات اذا ما سلمنا انها جنحة»، تقول آمال. هكذا مر كل شيء، وعاد الفَقد يسيطر على افراد العائلة. وما زاده اكثر اعادة تجديد بطاقة التطوع لـ ط. ع. أودعت القضية للحفظ بعد رفض الاستئناف. كانت ستقفل لولا أن وزير الداخلية طلب العام الماضي من القضاء ملاحقة المعنيين، مع وعد بإعادة فتح المحاكمة. لوحقوا، وبقي الوعد بإعادة فتح المحاكمة. فهيهات ان تفتح، يختم المفجوعون.