راهن الرئيس الأول للجنة التحقيق الدولية المستقلة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، الألماني ديتليف ميليس، إثر تولّيه مهمّاته في حزيران 2005، على تكرار سيناريو تحقيقات تفجير ملهى «لابيل» البرليني عام 1986، التي اختُتمت في تشرين الأول 2001. فإضافةً الى اعتماده أقوال الشاهد الملك السوري محمد زهير الصديق في قضية الحريري، والشاهد الملك الليبي محمد عبد الغفار العتر في قضية برلين، والتعامل معهما وفقاً لاعتبارات استخبارية، فإنّ الجزء الأكبر مما استندت إليه محاضر التحقيقات في تفجير «لابيل» هي معلومات جُمعت بعد سقوط نظام الحكم في ألمانيا الشرقية. ظنّ ميليس أن فرصة إسقاط النظام في الجمهورية العربية السورية كانت متاحة في 2005، إذ انطلق الرجل من توقعات متسرّعة لردّ الفعل الأميركيّ تجاه ما عدّه «محور الشرّ» وحلفاءه بعد هجمات الحادي عشر من أيلول 2001. واعتقد المحقق الألماني أنه سيتمكن من الاستيلاء على وثائق ومستندات محفوظة في أدراج أجهزة الاستخبارات السورية إذا أُسقط النظام، تماماً كما تمكّن من الاستيلاء على وثائق وكالة «شتازي» الاستخبارية الألمانية بعد سقوط جدار برلين. وراهن ميليس على أن تلك الوثائق، التي قد تكون أكثر خطورةً من وثائق «ويكيليكس» بالنسبة إلى بعض اللبنانيين، تتضمن معلومات تشير الى ضلوع سوريا وحلفائها في جريمة اغتيال الحريري. لكن ذلك لم يحصل. فتقرّر انتقال مسار التحقيق من الاشتباه في سوريا الى الاشتباه في حزب الله، وخصوصاً بعد عرض جهات استخبارية غربية خدماتها في عملية جمع المعلومات وفقاً لمصالحها الإقليمية.
ورغم رحيل ميليس وانتقال الاختصاص القضائي في القضية من لجنة تحقيق إلى محكمة دولية، تعود اليوم رهاناته الى الواجهة عن طريق بعض المعادين لنظام الرئيس بشار الأسد. فهؤلاء كانوا قد نسفوا مبدأ قرينة البراءة خلال 2005 والأعوام الأربعة التي تلتها، وهم يبحثون اليوم، بحذر شديد، عن سبل استثمار ما يحصل في سوريا لاستعادة زمام المبادرة، وكما بات استجلاء التدخل الغربي مطلوباً، أو في الحد الأدنى مقبولاً، في ليبيا، بدأ البعض يقتنع باستحالة تحقيق التحرّكات الاحتجاجية في سوريا أهدافها من دون مساعدة «المجتمع الدولي»، ربما بواسطة لجنة تحقيق دولية. وفي هذا الإطار لا بدّ من استعادة لغة التمسّك بـ«عدالة دولية» يتحكّم فيها مجلس للأمن الدولي وقف متفرّجاً على بعض الجرائم، وتحرّك بحزم لملاحقة مسؤولين عن جرائم أخرى وذلك بحسب ما تقتضيه مصالح الدول الكبرى.