المعاناة لم تتوقف يوماً في أروقة قصور العدالة. فطريق النجاة لم تصدف أن كانت بغير ألمٍ وشقاء، أو هكذا أرادوها، ولو ارتفع فوق قببها ميزان العدل. أصوات المتألمين دوماً قوبلت بأصواتِ القيّمين على المرفق العدلي المبرّرة، فكانت خير مُعبّرٍ عن العجز التام عن فعل شيء. كذلك كانت حالُ الخطابات المتضامنة التي لم تستطع إحداث تغييرٍ جذري في الوضع القائم، لكنها خفّفت منه. أمس كان مختلفاً، فقد مثّل انعطافة في العُرف السائد بعدما اقترن القول بالعمل، ليبدأ السير ببرنامج تأهيل نظارات التوقيف ولو كان وفق قاعدة «الكحل خيرٌ من العمى».
لقد أقيم قبل ظهر أمس في باحة قصر عدل بعبدا حفل إعلان انطلاق العمل في برنامج تأهيل النظارات في قصور العدل كمرحلة أولى، وباقي النظارات كمرحلة ثانية تتولاها جمعية عدل ورحمة، بالتعاون مع المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي وبتمويل من الاتحاد الأوروبي. بدأ الاحتفال بكلمة ترحيبية لرئيس قسم حقوق الإنسان في المفتشية العامة لقوى الأمن الداخلي الرائد زياد قائد بيه، رحّب فيها بالحضور، ثم ألقى الأب هادي العيا كلمة أسهب فيها بالحديث عن معاناة الموقوفين على ذمة التحقيق في النظارات التي أشبه ما تكون بـ«القبور النتنة». ولفت الأب العيا إلى أن عدد الداخلين إلى نظارة بعبدا خلال ثلاثة أشهر، وفقاً للقيّمين عليها، بلغ نحو 1200 موقوف. انطلق الأب العيا من هذه المقدمة ليخلص إلى أن ما يقارب خمسة آلاف إنسان خلال السنة الواحدة يتعرضون للإساءة صحياً ونفسياً في هذه النظارة. بعدها ألقت رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان السفيرة أنجيلينا ايكهورست كلمة أكّدت فيها «الالتزام الثابت للاتحاد الأوروبي ودوله بالعمل على مكافحة التعذيب والمعاملة السيئة»، مشيرة إلى أن يوم أمس كان بداية لمرحلة جديدة لتأهيل وتجهيز 80 نظارة لقوى الأمن وقصور العدل و20 مركز تأديب للدرك بهدف زيادة المساحات والظروف الصحية. وذكرت السفيرة ايكهورست أن أكثر من 700 ضحية من الموقوفين والسجناء استفادوا من الدعم القانوني والنفسي والطبي منذ بداية المشروع التي كانت في 2009. وختمت رئيسة البعثة كلمتها بتوجيه تحيّة لجهود قوى الأمن الداخلي التي تظهر بمشاركتها الفاعلة في هذا المشروع.
من خارج برنامج العمل المتّفق عليه، طُلب إلى قائد الدرك بالوكالة العميد صلاح جبران إلقاء كلمة فارتجل كلمةً كلمة أثنى فيها على الخطوة التي «كان يجب أن تأتي قبل الآن، غير أن الأحداث السياسية التي مرّت بلبنان حالت دون القيام بها».
وشدد العميد جبران على ضرورة تحسين أوضاع السجناء والموقوفين والعمل على تطبيق حقوق الإنسان لجعل السجناء مواطنين صالحين في هذا البلد. وفي الختام، ألقى العميد شربل مطر كلمة المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي التي بدأت بجُمل اختيرت بعناية تأكيداً على أن صون حقوق الإنسان هو الهدف. وأشار العميد مطر إلى أن العمل الصامت على مشروع تأهيل النظارات في قوى الأمن الداخلي بدأ منذ نحو سنتين، لافتاً إلى أن المديرية العامة شكّلت لجنة قامت بزيارة ما يقارب 575 نظارة.
وأشار مطر إلى أن اللجنة نظمت تقارير بيّنت حاجاتها، ليلفت إلى أنه أُعطيت الأولوية في المرحلة الأولى لتأهيل نظارات قصور العدل التي تشكو من اكتظاظ كبير لموقوفين يقضون داخلها فترات تصل حتى شهر أحياناً ويصل عددهم في البعض منها الى خمسين موقوفاً.
وذكر العميد مطر أن المرحلة الثانية من أعمال التأهيل سوف تشمل باقي النظارات وغرف التحقيق مع الأفضلية لتلك المستقرة في مبانٍ عائدة لقوى الأمن الداخلي. انتهت الكلمات ليقوم الحضور بجولة على النظارة التي يجري تأهيلها، تقدّمهم قائد الدرك بالوكالة والنائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي كلود كرم.
برز التمثيل الدبلوماسي بين الحضور، فقد حضرت رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان أنجيلينا ايكهورست وسفراء تشيكيا السيد يان سيزيك، وسفيرة بريطانيا فرانسيس ماري غاي، وسفير بلجيكا جوهان فيركامن، وسفير هولندا هيرو ايلنجي غيرت دو بوير، وسفير إيطاليا غوسيبي مورابيتو، والقائم بأعمال السفارة الإسبانية أنطونيو براتس، والسفيرة البلغارية يوليا بير غوزليفا، إضافة إلى القادة والضباط، ومن بينهم ممثل وزير العدل القاضي نبيل موسى وممثل المدير العام لوزارة العدل القاضي محمد رعد ورئيس جمعية عدل ورحمة الأب هادي العيا ورئيس بلدية بعبدا الدكتور هنري حلو وعدد من الضباط وبعض الجمعيات.



لقطة

حضور قائد الدرك بالوكالة العميد صلاح جبران كان مشجّعاً وفق عدد من الحاضرين. فقد ذكر هؤلاء أنه يعني من حيث الدلالة الالتزام الكلّي، لجهة النوايا والأفعال، ضمان التغيير الجذري للوضع الذي كان سائداً. وتجدر الإشارة إلى أن نشاط أمس ليس الأول لقائد الدرك منذ تعيينه، فقد اتّخذ الأخير عدداً من الخطوات على طريق تحسين الأحوال الصحية والإنسانية بناءً على المعايير الدولية. وعلمت «الأخبار» أن العميد جبران قسّم المبنى «د» في سجن الموقوفين إلى قسمين، يرأس كلاً منهما ضابط بعدما كان كله بإمرة ضابط واحد. وبذلك يكون قد خفّف من الأعباء المترتبة، باعتبار أن المبنى المذكور يحوي نحو 2000 نزيل. ويشار إلى أن قائد الدرك سيزور سجن رومية المركزي نهار الجمعة المقبل.



الأمس واليوم

لم تكن كذبة الأول من نيسان. بالفعل بدأ الإصلاح، فقد انتهى الحفل أمس ليخطو الحاضرون خطوات معدودة نحو الأسفل باتجاه ظلمة الزنزانة. نزلوا عدة درجات ليدخلوا إلى نظارتي توقيف انتهى العمل فيهما فيما لا يزال في النظارات الأخرى. النظارة الواحدة لا تتسع لأكثر من عشرة موقوفين بحسب المعايير المعتمدة وفقاً لأحد الضباط الذين كانوا حاضرين، لكنه لفت إلى أن الضرورات تبيح المحظورات، ما يعني أنه بانتظار الحل الجذري يبيح الاكتظاظ حشر عشرات الموقوفين في غرفة لا تتسع لأكثر من عشرة. هذا بالنسبة إلى المساحة، أما الإنارة الخافتة بشكل «رومانسي» فإنها سيئة للغاية إلا إذا قورنت بما كانت عليه في السابق.