كانت الأصوات تعلو مطالبةً بإحالة القضية على المجلس العدلي لمحاكمة المتهمين أمامه، إثر معظم الجرائم التي وقعت في لبنان، التي كان ضحاياها سياسيون نافذون. هذا المجلس أصبح في الآونة الأخيرة حديث الساعة، على خلفية ملف «شهود الزور» في قضية اغتيال رفيق الحريري، الذي اختلف الفرقاء السياسيون على إحالته عليه.
في هذا الإطار، وبعيداً عن جريمة اغتيال الحريري، طُرحت في الآونة الأخيرة الكثير من الأسئلة المبدئية بشأن المجلس العدلي. ما هي أسباب ارتفاع الأصوات المطالبة بالإحالة على هذا المجلس عند بعض الجرائم، لماذا أمام هذا المجلس بالذات، ما الذي يفرّقه عن المحاكم العادية؟ كيف يضع يده على القضية، وممّ يتألف، وما هي الأصوال المتّبعة أمامه، وما هي طبيعة القرارات التي تصدر عنه، وكيف تنفَّذ؟
من أجل هذه الأسئلة، ولما بات للموضوع من أهمية كبرى في الوقت الحاضر، قررت نقابة المحامين في بيروت دعوة المحامين المتدرجين إلى حضور محاضرة، ألقاها القاضي هاني الحبّال، أمس، بعنوان «المجلس العدلي في لبنان».
مع انتهاء القاضي حبّال من إلقاء محاضرته في بيت المحامي ـــــ بيروت، وعند إفساح المجال للحاضرين لطرح الأسئلة، توّجه عضو نقابة المحامين ناضر كسبار إلى الحاضرين وتمنّى عليهم «عدم طرح الأسئلة ذات الصلة بالسياسة». كان هذا التمني كفيلاً بأن يفهم الجميع مدى حساسية الموضوع المطروح، وخاصةً في هذه الفترة في لبنان، نظراً إلى كون الحاضرين من المحامين المتدرجين الذين يأتون من مختلف التوجهات السياسية والطائفية، وبالتالي تحاشياً لأي «هرج ومرج» بينهم، على حد تعبير المحامي كسبار، الذي التقته «الأخبار» على هامش المحاضرة.
مما جاء في محاضرة القاضي حبّال، الذي يشغل حالياً منصب مستشار لدى محكمة الجنايات في بيروت، أن المجلس العدلي، بحسب قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، هو محكمة «الجرائم الواقعة على أمن الدولة». وهو، بحسب القانون الجديد، الصادر عام 2005، مجلس تحال عليه الدعاوى «بناءً على مرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء». يتألف المجلس العدلي من الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيساً، ومن أربعة قضاة (عادةً 3 رؤساء تمييزين ومستشار تمييزي) من محكمة التمييز أعضاءً يعيّنون بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء، بناءً على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى.
يُشار إلى أن الفقرة التي تتحدث عن دور وزير العدل ومجلس الوزراء في تعيين القضاء، تثير الكثير من علامات الاستفهام لدى بعض القانونيين، إذ يرون في الأمر خلطاً للسلطات وتعدياً على السلطة القضائية، التي هي بالأصل سلطة مستقلة بحسب نص الدستور اللبنانيّ. يبرز هذا التداخل، أو التعدّي، بوضوح أكثر، من خلال القانون الذي ينيط بوزير العدل اختيار قاضي التحقيق لدى المجلس العدلي، ولذلك يسأل بعض أهل القانون عن «مدى الحيادية التي سيكون عليها هؤلاء القضاة في القضايا السياسية، وهم المعينون أصلاً من جانب الجهات السياسية؟». هذه الأسئلة طرحتها «الأخبار» على القاضي الحبّال، فقال إن «هذا هو الواقع في لبنان، والخلاف في الرؤى بشأن هذه المسألة موجود ومعروف، فتداخل السلطات الأخرى مع السلطة القضائية، وتحديداً في المجلس العدلي، يبدأ أصلاً من اللحظة التي تحال فيها الدعاوى من مجلس الوزراء على المجلس العدلي».
في محاضرته المقتضبة، شرح الحبّال اختصاص المجلس العدلي، وذلك من خلال المادة 270 وما يليها حتى المادة 336 من قانون العقوبات، وهي المواد التي تحدد الجرائم الواقعة على أمن الدولة، سواء داخلياً أو خارجياً، وتشمل الخيانة، أي حمل السلاح في صفوف العدو ودس الدسائس لمباشرة العدوان على لبنان أو شل الدفاع الوطني، أو اقتطاع جزء من الأرض اللبنانية لضمه إلى دولة أجنبية أو مساعدة الجواسيس أو جنود العدو. تشمل أيضاً التجسس والصلات غير المشروعة بالعدو، وخرق التدابير المتخذة للحفاظ على الحياد في الحرب والنيل من هيبة الدولة، وتغيير دستور الدولة بطرق غير مشروعة، واغتصاب السلطة وإثارة الفتنة أو الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي، وإنشاء عصابات مسلحة أو ارتكاب جرائم الإرهاب.
يوضح القاضي الحبّال أن كلمة «الإرهاب» في القانون اللبناني، هي بحسب النص، مشروطة بثلاثة أمور لوصف فعل ما بأنه عمل إرهابي، هي: نيّة إيجاد حالة الذعر، استعمال وسائل خطيرة (متفجرات، مواد ملتهبة أو سامة أو محرقة....) وإحداث خطر عام. فهذه الشروط الثلاثة «مرتبطة ومتداخلة». وفي السياق نفسه، تطرق القاضي إلى موضوع الطعن في قرارات المجلس العدلي، الذي لم يكن يقبل سابقاً أياً من طرق المراجعة، إلى أن عدّل نص القانون عام 2005 فأجيزت إعادة المحاكمة في القضايا الجنائية والجنحية «مهما كانت المحكمة التي حكمت بها والعقوبة التي قضت بها».



«الشكوى لله»

ما هي فلسفة وجود المجلس العدلي، ولماذا لا يُكتفى بالمحاكم العادية؟ سؤال وجهته «الأخبار» أمس إلى القاضي هاني الحبّال على هامش المحاضرة التي ألقاها في بيت المحامي عن المجلس العدلي في لبنان. لم يستفض القاضي في إجابته، مكتفياً بالإشارة إلى أن المجلس العدلي يمكن تسميته «محكمة أمن الدولة»، لافتاً إلى أنّ هذا المجلس «لم يعد موجوداً، على حد علمي، سوى في لبنان». أما عن الجهة التي يمكن أن تحاسب هذا المجلس، على فرض ارتكابه خطأً ما، بينما هو أعلى مجلس قضائي لبناني، فيقول القاضي الحبّال مبتسماً: «في هذه الحالة يمكن الشكوى إلى الله». ويلفت إلى أن القضاة في هذا المجلس، كسائر القضاة، يخضعون لرقابة هيئة التفتيش القضائي. يُشار إلى رئيس المجلس العدلي هو حُكماً، رئيس لمجلس القضاء الأعلى.



عجز

بحسب البروتوكول الموقّع بين الحكومة اللبنانية والمحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، فإنه لا صلاحية للقضاء اللبناني في متابعة الجرائم التي حصلت بعد اغتيال الحريري، إذا ثبت أنها ذات صلة بالجريمة الأولى. هذه الصلة لم تثبت، حتى الآن، وبالتالي هي من صلاحية القضاء اللبناني، وهي محالة أصلاً على المجلس العدلي، ومع ذلك لم يعلن القضاء اللبناني أيّ تقدم حصل في التحقيقات بشأن هذه الجرائم. ويوضح القاضي هاني الحبال، أن مرسوم الإحالة على المجلس العدلي يشمل القضايا المحالة وما يتفرع عنها، ومنها موضوع «شهود الزور»، لكن يجب العودة في هذا الأمر وسواه ممّا يتعلق بالقضية الأساسية إلى ما ينص عليه بروتوكول التعاون بين المحكمة الدولية والحكومة اللبنانية.