أثبت لبنان، مرة جديدة أمس، أنه بلد لا تتوافق فيه نصوص الدستور مع حسابات الواقع. ففي بلاد الأرز دستور ينص على فصل السلطات، وعلى أن السلطة القضائية فيه مستقلة وتحكم باسم الشعب اللبناني، ولكن مع ذلك يُرجئ المجلس العدلي أمس النظر في قضية إخفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه إلى الأول من نيسان المقبل بسبب «عدم اكتمال الهيئة» في المجلس، فهذه الهيئة لا تكتمل إلا بتعيينات من جانب الحكومة. وإلى أن يحصل ذلك تبقى العدالة في قضية، يدّعي الجميع أنها «وطنية» بامتياز، معلّقة ورهن توافق السياسيين على أسماء القضاة. امتلأت قاعة المجلس العدلي في بيروت أمس بنحو 400 محام، جاؤوا بلباس المحاماة الأسود تضامناً مع قضية الصدر. حضروا من مختلف المناطق، وكانوا من مختلف الطوائف، إلا أنه لم يكن من الصعب ملاحظة أن أكثريتهم من الطائفة الشيعية. بدأت الجلسة، فدخل القضاة أعضاء المجلس العدلي برئاسة سامي منصور، وخلفه المستشارون الياس بو ناصيف وجورج كرم وبركان سعد، وليكتمل مشهد المحاكمة، التي لم تحصل، دخل النائب العام التمييزي القاضي سعيد ميرزا ممثلاً الحق العام.
حل الصمت في القاعة، بعد ضجيج أحاديث المحامين الجانبية، عندها أعلن القاضي منصور أن أوراق التبليغ رُدّت من ليبيا بعد رفض السلطات الليبية التوقيع عليها، وكانت تطلب حضور المتهمين إلى المحكمة، وهم: معمر بن محمد أبو منيار القذافي، المرغني مسعود التومي، أحمد محمد الحطاب، الهادي إبراهيم مصطفى السعداوي، عبد الرحمن محمد غويلة، محمد خليفة سحيون وعيسى مسعود عبد الله لمنصوري. هكذا، أعلن القاضي منصور إرجاء الجلسة إلى الأول من نيسان المقبل. لم يكن الخبر مفاجئاً للحاضرين، فالكل كان يعرف أن هيئة المجلس العدلي غير مكتملة وبالتالي غير قادرة على المباشرة بالمحاكمة، علماً أنه كان بالإمكان السير بمحاكمات غيابية لو كانت الهيئة مكتملة.
هكذا، أذاع منصور موضوع الجلسة وهو: «جريمة الاعتداء على أمن الدولة الداخلي الناتج عنها إخفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين»، معلناً أسماء وكلاء الادّعاء المحامون، وهم: فايز الحاج شاهين، شبلي الملاط، النقيب رمزي جريج، النقيب بسام الداية، أنطوان كعدي، سليمان تقي الدين وخالد الخير.
لم تدم الجلسة أكثر من ربع ساعة، رغم حضور المحامين المتضامين ومعهم الإعلاميون قبل ذلك بنحو ساعتين. ومع إعلان القاضي منصور انتهاء الجلسة صرخ المحامي إبراهيم زعرور بأعلى صوته قائلاً: «قضية الإمام الصدر قضية وطنية، لا بد من إظهار الحقيقة ولو بعد 33 عاماً على إخفائه، لا بد من معاقبة المجرم». صفّق الجميع وعلت أصوات التأييد. كان لافتاً حضور جميع أعضاء مجلس نقابة المحامين في بيروت، إلا أن جلوسهم في المكان الذي يُخصّص عادة لجلوس المتهمين، نظراً لضيق القاعة، جعل البعض يتندّر عليهم ويمازحهم كمتهمين افتراضيين. حضر الوزير السابق كريم بقرادوني بثوب المحاماة، متضامناً أيضاً. سألته «الأخبار» عن سبب حضوره وعمّا تعني له قضية الصدر، فأجاب، مبتسماً كما دائماً، وقال: «كنت صديق الإمام وعرفته منذ عام 1970 وعشت معه. أيضاً، الصدر كان صاحب قضية وطنية، وهذه القضية تعنينا. لقد خافوه فأخفوه. غيّبوه لضرب المقاومة بلبنان في وجه إسرائيل. كل هذه الأسباب تجلعني أكون هنا وألبس ثوب المحاماة تضامناً». يبرز من بين الحاضرين محام طاعن في السن، يجلس في مكان بعيد نسبياً عن باقي المحامين، هو المحامي جوزف جعجع. ما إن يعلم أن المتحدث إليه إعلامي حتى يعلن أن لديه شهادة للتاريخ لا بد من قولها. المحامي جعجع، ابن قرية دير الأحمر – البقاع، يتذكر حين اعتصم الإمام الصدر في المسجد استنكاراً للحرب الأهلية في منتصف سبعينيات القرن الماضي. ويضيف جعجع، المحامي لا السياسي، أنه «بعد فك الصدر اعتصامه توجّه مباشرة إلى قريتنا، فالتقينا به وخطب بنا خطبة لم ولن أنساها ما بقيت حياً. لقد تأسف على ما حل بنا من إطلاق نار وأذى في الحرب، وقال لقد أصبحنا كالذئاب، فبكى على المنبر وأبكانا جميعاً». تدمع عينا المحامي جعجع وهو يتذكر العبارة الشهيرة التي أطلقها الصدر أثناء اعتصامه، يوم رفض إطلاق النار على القرى المسيحية، إذ قال «كل من يطلق طلقة على دير الأحمر والقاع كأنه يطلقها على صدري وعمامتي وأولادي ومحرابي».
من جهته، قال المحامي أشرف الموسوي إن قضية الصدر «هي قضية وطنية ورأي عام حر، الهدف منها نصرة كل مظلوم سواء لدى النظام الليبي أو في سجون الاحتلال الاسرائيلي». وعن حضور المحامين إلى المجلس العدلي للتضامن قال الموسوي: «هذا يوم قضائي بامتياز، وأتمنى حصول التعيينات في المجلس العدلي بأسرع وقت لكي تأخذ العدالة مجراها».
خارج قاعة المحكمة، وقف الوزير السابق ناجي البستاني، الذي حضر متضامناً أيضاً، وأذاع بياناً باسم المحامين المتضامين مع قضية الإمام الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والسيد عباس بدر الدين. ومما جاء في البيان أن الصدر «يمثل قيمة إنسانية وطنية وفكرية ودينية وسياسية عالية، واختطافه مع أخويه من قبل معمر القذافي منذ 31/8/1978 جريمة شنيعة مستمرة وثابتة تعني كل لبناني وكل حر في العالم». وطالب المحامون في بيانهم المجلس العدلي، والجهات الحكومية اللبنانية، تسريع إجراءات المحاكمة تمهيداً لإصدار الحكم النهائي بحق معمر القذافي وأعوانه ومحاسبتهم. وفي رده على سؤال لـ«الأخبار» قال البستاني: «يمكن أن تحال قضية الصدر على محكمة دولية، لا مانع، ولكن ذلك يتعارض حالياً في الصلاحيات مع القضاء اللبناني، إلا أن الجهات الدولية الرسمية والأهلية مطالبة بالعمل على ما يلزم من أجل تحرير الإمام وأخويه من السجون الليبية». وخارج قصر العدل، وقف المحامي أنطوان كعدي وأذاع بياناً باسم جهة الادعاء الشخصي، جاء فيه أن «أي إطالة إضافية في المحاكمة غير مقبولة بعد مرور 33 عاماً على الاختطاف الإجرامي».
هكذا، يمكن وصف جلسة المجلس العدلي أمس بالجلسة التضامنية أكثر منها جلسة محاكمة. فبعد أكثر من 3 عقود على تغييب الصدر يظهر مدى التقصير القضائي الذي لحق بهذه القضية، التي استمرت بلا قرار اتهامي حتى عام 2008 إلى أن «تجرّأ القاضي سميح الحاج وأصدر قراراً اتهامياً بحق القذافي ومعاونيه، بصفته محققاً عدلياً، بعدما سبق أن تولاها عدد من القضاة الذي كانوا يعودون ويطلبون التنحي فيها بسبب القلق والخوف، وذلك قبل أن تكون هناك ثورة شعبية في ليبيا وقبل أن تضعف شوكة القذافي». هكذا عبّر أحد المحامين عن امتعاضه من التقصير «الذي يطال الجميع بلا استثناء».



«شاهدٌ» جديد يُريد أن يشهد

حسن فحص انضمّ أمس إلى كثيرين يقولون إنهم يملكون روايات مرتبطة بقضية اختفاء الإمام موسى الصدر. أمس أراد ألّا يُفوّت جلسة المجلس العدلي، وقال إنه يريد أن يُدلي بـ«معلومات» تؤرق باله منذ سنين طويلة»، فهو «كان يملك متجراً عام 1978 مقابلاً لمركز لحركة فتح في الطريق الجديدة، حيث كان يعقد ياسر عرفات اجتماعات»، ولاحظ قبل نحو عشرين يوماً من اختطاف الإمام قدوم موفد الرئيس الليبي عبد السلام جلّود خمس مرّات للاجتماع مع الختيار (ياسر عرفات). وفي رواية فحص أنه شهد حضور الإمام الصدر للقاء أبو عمّار قبل خمسة أيام من اختطافه، ويومها صافح حسن الإمام مستفسراً عن قدومه، فأخبره بأنه سيجتمع إلى الختيار. قال صاحب المتجر إنه سمِع مرافقي عرفات الذين كانوا زبائن له يتحدّثون في ما بينهم عن أن عرفات أخبر الصدر عن عرض ليبي لدعمه بالمال والسلاح. وصل حسن إلى قصر العدل في بيروت في الموعد المحدّد. أراد الدخول لتقديم شهادته، لكن لم يُسمح له. سأل عن وكلاء الادّعاء فأخبروه أنهم في الجلسة. ترك رقم هاتفه مع أحد المحامين.