لم يرَ معمر القذافي يوماً أن الآثار في بلاده مهمة، بل كان يردد أن المواقع الأثرية يجب أن تجرف وترمى حجارتها في البحر لأنها «شاهد على الإمبريالية في العصور القديمة، ولا يجوز أن نفخر بها»، لكن، لحسن الحظ لم ينفّذ القذافي تهديداته، وترك المواقع الأثرية والمتاحف على حالها. هُمّش أهل الاختصاص، لكن شغفهم بالآثار أنقذ أكبر المواقع الأثرية والمتاحف خلال المعارك التي شهدتها ليبيا العام الماضي، بحسب ما يؤكد كل من حافظ الوالدة، عالم الآثار الليبي المدرّس في جامعة كينغز كولدج في لندن، وكارل فون هابسبورغ، رئيس رابطة اللجان الوطنية للدروع الزرقاء، الذي ترأس فريقاً من الخبراء زار المواقع الليبية مرتين منذ انتهاء الحرب، ويحضر الآن لرحلة ثالثة.
يوضح فون هابسبورغ أن العمل للمحافظة على الآثار الليبية «تزامن مع بدء الحديث عن تدخل الحلف الأطلسي في ليبيا. حينها قررنا أن نؤمن لائحة بكافة المواقع الأثرية ونسلّمها لقوات الحلف الأطلسي لتجنيبها أيّ استهداف بالقصف»، لكنه يستدرك: «لا يمكننا أن نؤكد أن حلف الأطلسي عمل بهذه اللائحة، غير أنه يمكن الجزم بأن المواقع والمتاحف لم تتعرض لغارات الطيران الحربي، لأنه ما من جيش في العالم يريد أن يتحمل مسؤولية كارثة كتلك التي حلت بالمتحف العراقي، بل باتوا يفضلون العمل مع أهل الاختصاص مسبقاً». مع انتهاء العمليات العسكرية قامت لجنة الدروع الزرقاء بأول زيارة تفقدية للمواقع الأثرية في ليبيا. ويشرح الوالدة «أن نتائج الجولة على المواقع الأثرية كانت سارة للغاية، واكتشفنا أن مبادرات فردية لبعض حراس هذه المواقع أسهمت إلى حد كبير في تأمين حمايتها. ففي مدينة لابيس ماغنا (وهي من أروع المواقع الأثرية الرومانية على شاطئ البحر المتوسط) كانت الخشية كبيرة من أن تُستخدم مواقع الآثار لأهداف عسكرية، وأن تتعرّض للقصف بالقنابل العنقودية، فعمد الحارس الى الطلب من الرعاة في الجوار أن يأتوا بقطعانهم الى الموقع. وهذا ما حصل. رعت الخراف بين الآثار للتأكد من عدم استعمالها عسكرياً. أما علماء الآثار الذين كانوا يعملون على هذه المواقع، فقد تقاسموا الأرشيف، وأخذ كل منهم قسماً الى بيته، خشية تعرض المخازن للسرقة وملفات القطع والمقتنيات للتلف».
ويلفت هابسبورغ إلى أن أبواب المتاحف «لم تكن موصدة فحسب، بل ختمت بالرصاص أيضاً، بحيث لم يكن فتحها ممكناً من دون معدات خاصة، وهذه طريقة في الحفظ عادة ما تعتمدها الجيوش لمخازن السلاح». ويؤكد أن قاعات المتاحف والقطع الأثرية «بقيت على حالها كما كانت قبل الحرب». إلا أنه رغم النتائج العامة المرضية، كان فريق الخبراء شاهداً على عملية تخريب لموقع أثري في ام شوكا، حيث استعملت الجرافات لنبش الآثار، مما أدى الى تدمير جزء منه.
أما بالنسبة إلى سرقة كنز بنغازي، فكل الإشارات تؤكد أن السرقة لم تكن عشوائية، بل جرت وفق مخطط محدد، وأن منفذيها محترفون يعرفون كل تفاصيل المخبأ في البنك المركزي. ويوضح الوالدة أن اللصوص «دخلوا المبنى وحفروا فجوة في الباطون المسلح فوق مكان حفظ الكنز تماماً، لا تزيد على ثلاثين سنتيمتراً، وعمدوا الى سرقة العملات النادرة والذهبية التي يزيد عددها على الـ 10.000، ثم أضرموا النار في المبنى. والغريب أن العملية جرت في وسط المدينة، ولم يعرف بها إلا بعد أسابيع». وقال إن التعرف على القطع المسروقة واستعادتها «أمر صعب لأنها لم تكون مشمولة في الجردة العامة للتحف، والموجود بعض الصور فقط. وهذه خسارة لليبيا لا تعوّض». وعن القطع الليبية التي بدأت تظهر في أسواق القطع الأثرية لفت الخبير الليبي الى أن دار كريستيز للمزادات العلنية «عرضت خلال الحرب رأس تمثال روماني سرق من أحد متاحف ليبيا في السنوات الماضية. فأطلقنا حملة في بريطانيا لإجبار الدار على إلغاء عملية البيع، وهذا ما حصل، إلا أن المحاكم البريطانية رفضت الدعاوى التي رفعناها لأنها لم تقدم باسم الدولة الليبية، بل باسم أفراد. وبانتظار أن تعود السلطة في ليبيا ويُعترف بها دولياً، سيعاد فتح الملف لكي تعاد التحفة الى ليبيا».
الليبيون برهنوا، خلال المعارك الطاحنة التي دارت في بلادهم، عن قدرة هائلة على حماية تراثهم وآثارهم، لكن المطلوب اليوم من السلطات الجديدة أن تبدي اهتماماً سريعاً بهذا الملف، بعدما بدأت أسواق الآثار تبدي شهية مفتوحة لكنوز ليبيا.