بورسيبا واحدة من أبرز الآثار العراقية في محافظة بابل، يمتزج التاريخ بالميثولوجيا. فبحسب آثارها، بورسيبا كانت تتبع مدينة بابل، لكن المصادر الدينية تعتبرها أرض صراع الأديان السماوية والوثنية. صراع لم يخرج منه أحد منتصراً إلا الآثار التي تصارع اليوم عوامل الطبيعة والإهمال، ويهدّدهاالانهيار
العراق ــ كريم القاسمي
على بعد 15 كلم جنوب غرب مدينة الحلّة، يتراءى للناظر من بعيد تلّان أثريان لا يفصل بينهما إلا مسافة قصيرة. أحدهما تعلوه قبة بنيت على ما يعتقد أنه مقام النبي إبراهيم، والآخر يرتفع عمودياً، إنه زقورة بورسيبا التي تعني قرن البحر أو سيف البحر. الزقورة هي معبد الآلهة في حضارات ما بين النهرين، وهي برج عالٍ يرتفع كالجبل في الصحراء. زقورة بورسيبا كانت معبد الإله نابو نجل الإله مردوك، الإله الأعظم لمدينة بابل. وفي أذهان سكان المنطقة، هذا المكان شهد صراع الملك نمرود مع النبي إبراهيم الذي ترويه المصادر الدينية.
علماء الآثار لا يعترفون بالأساطير الدينية المحلية، وخاصة أنها غير مذكورة في النصوص المسمارية المكتشفة على موقع بورسيبا. وتقول الآثارية مريم عمران مديرة آثار بابل إن «المستظهر من آثار بورسيبا يقترن بالفترات البابلية الحديثة وتحديداً بعهد الملك نبوخذ نصر الذي حكم من 604 ــ 562 قبل الميلاد والذي ازدهرت في عهده المدينة. معبد المدينة الرئيسي، أي الايزدا، كان مخصصاً لعبادة إله نابو، إله العلم والحكمة وحامي بورسيبا. اكتشاف المدينة الأثرية يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، حينما استظهر الآثاري الألماني روبرت كولدوي زقورة بورسيبا ومعبدها الرئيسي. وبعد هذا الاكتشاف أهملت المدينة حتى سنة 1980، حينها باشرت البعثة الآثارية النمسوية التنقيب في الموقع، واستمرت تعمل موسمياً حتى اندلاع الحرب عام 2003.
تظهر بورسيبا للزائر من بعيد كأنها برج يرتفع عن الأرض بنحو 47 متراً، ما إن تقترب من البرج حتى تفاجأ بأنه تل مشيّد من الأسفل إلى الأعلى بقطع من الآجر الكبيرة، وثمة مسالك لتسلق البناء الذي تناثر الآجر على جوانبه. برج الزقورة انشطر إلى نصفين منفصلين، قامت البعثة الآثارية النمسوية بربطهما بواسطة قضيب حديدي في ثمانينيات القرن الماضي لمنع سقوطهما، لكن مدير ناحية الكفل المهندس خالد عبيد لا يخفي قلقه الكبير من احتمالات انهيار البرج. ويقول: «كلما مررت بالقرب من بورسيبا أحمد الله على أن برجها لم ينهر بعد، رغم الحاجة الماسّة إلى صيانته».
مبدأ الزقورة، كما تشرحه مديرة آثار بابل، يستند إلى معتقدات شعوب بلاد ما بين النهرين القدماء. فهم كانوا يشيدون المعابد على قواعد مرتفعة عن الأرض (أرض البلاد تخلو من الجبال)، لذا كان من الضروري رفع المعابد «اصطناعياً» بهدف إظهار قدسيتها بقربها من السماء وتجنيبها العوامل الطبيعية من مياه جوفية وفيضانات. وتعدّ الزقورة من المباني الأساسية لكل مدن حضارات ما بين النهرين. وزقورة بورسيبا مذكورة في النصوص المسمارية على أن الملك نبوخذ نصر كان قد رممها فارتفعت إلى سبع طبقات وصل علوها إلى 72 متراً، وغطيت بعض جدرانها بالأزرق لتبدو كأنها مصنوعة من الحجارة الزرقاء. وحتى اليوم لا تزال الزقورة من الأعلى في العراق، لكنها أيضاً من الأكثر عرضة للخطر.
بالنسبة إلى السكان المحليين، هذا الموقع يرتبط بقصة النبي إبراهيم والملك نمرود، التي ذكرت في المصادر الدينية. وهذا ما يشرح وجود «تل النبي إبراهيم أبو الأنبياء» على بعد أمتار من الزقورة. فهذه الرواية الدينية ترى أن للنبي إبراهيم وجوداً

الأسطورة أعطت الموقع بعداً أنتروبولوجيّاً ساهم في إبقائه حياً في أذهان السكان
في بابل، حيث واجه الملك نمرود الذي ادّعى أنه إله أمر رفضه إبراهيم فدخل الاثنان في جدل فلسفي طويل. وحينما يئس إبراهيم من نشر عقيدته، حطّم تماثيل الآلهة في بابل. فرد مجلس الكهنة على ذلك باتخاذ قرار بحرقه، لكنه نجا بمعجزة. وهذا ما أغاظ الملك نمرود الذي قرر مواجهة ربّ إبراهيم، فأمر بتشييد بناء عال ليتحدى خصمه من فوقه. فشيدت الزقورة التي ارتقاها الملك وصوّب من فوقها رمحه، معتقداً أنه قتل إله ابراهيم، ما أغضب هذا الأخير فردّ بحرق الزقورة بأكملها.
هذه الأسطورة لا تمتّ إلى ما هو علمي بصلة، لكنها من المعتقدات التي تعطي للموقع بعداً «أنتروبولوجياً»، ما ساهم في إبقائه موقعاً أثرياً حياً في أذهان السكان. ولكن هذه الفكرة لا تبدل الواقع ولا تبدد المخاوف من انهيار زقورة بورسيبا. فمديرة آثار بابل تشدد على الحاجة الماسة إلى صيانة الزقورة وتدعيمها بحسب الدراسات العلمية، وتشير إلى ضرورة إحاطة التل الأثري بسور يحميه من عبث السارقين والباحثين عن قطع من الآجر يستخرجونها من الموقع. وتؤكد عمران أن الحفريات الأثرية لو استكملت على الموقع لكشفت الكثير من أسرار التاريخ التي تنتظر من يصل إليها.