شهيرة سلومكثيرة هي حوادث الطيران التي تشبه مأساة الطائرة الإثيوبية، لجهة مأزق انتشالها من المياه. سيناريوات متنوّعة للأسباب: التعرض لصاعقة أو عطل تقني أو حتى تلميح لاعتداء؛ جثث الضحايا بعضها عاد، وبعضها الآخر أبى البحر أن يُعيدها، ابتلعها كي ترقد بسلام في أعماقه، وهل هناك سلام أعمق من هذا؟ وللصندوقين الأسودين حكايات لا حكاية واحدة، إن وُجدا تجد المأساة من تضع اللوم عليه وتُزيح ألم الغموض عن أهل الضحايا، وإن لم يُعثر عليهما يصبح المجهول سبباً لخلق حكايات لا حدود لخيالها.
قبل نحو 7 أشهر، سقطت طائرة ركاب فرنسية على متنها 228 راكباً، بينهم 5 لبنانيين، تابعة لشركة «إير فرانس» من طراز «إيرباص» فوق المحيط الأطلسي، إثر تعرضها لاضطرابات جوية شديدة خلال رحلتها من ريو دي جانيرو إلى باريس.
وكانت الطائرة قد حلّقت في جو عاصف لأربع ساعات بعد إقلاعها، وبعدما وصلت إلى مسافة بعيدة فوق سطح البحر، أرسلت رسالة آلية تبلّغ عن حدوث أعطال كهربائية، وانقطع بعدها الاتصال مع غرفة المراقبة، فأقلعت طائرات حربية من البرازيل ومن أفريقيا للبحث عنها. رُجّح احتمال تعرضها لصاعقة جوية. فشكلت مهمة إنقاذ من 12 طائرة برازيلية وطائرة مزودة بأجهزة رادار يمكنها الكشف عن المواد في المياه وطائرتين فرنسيتين وسفينة فرنسية وخمس سفن تابعة للبحرية البرازيلية. وأرسلت فرنسا غواصة نووية للبحث عن الصندوق الأسود. عثرت فرق الإنقاذ على جثث وحطام الطائرة على مسافة 1100 كيلومتر شمال شرق جزر فرناندو دي نوروها، قبالة الساحل الشمالي الشرقي للبرازيل.
وبقي الغموض يلفّ أسباب سقوط الطائرة، إذ كانت آخر رسالة إلكترونية منها قد أشارت إلى وجود عطل في موجه الدفة، وكانت من ضمن 24 رسالة أخرى بثتها قمرة القيادة أوتوماتيكياً إلى فريق المتابعة الأرضية قبيل اختفائها عن شاشة الرادار. تجاوز عدد الجثث الذين جرى انتشالهم الخمسين وابتلع البحر البقية.
وفي عام 2004، سقطت طائرة «فلاش آير» مصرية من طراز «بوينغ 737 ــ 500» أمام ساحل شرم الشيخ في البحر الأحمر بعد إقلاعها بثلاث دقائق فقط، وراح ضحيتها 148 شخصاً، بينهم 133 سائحاً فرنسياً.
وكانت الطائرة ترقد على عمق 900 متر، بينما كانت المعدات المصرية لا تعمل على أكثر من 120 متراً تحت الماء، ولا يستطيع الغواصون ورجال الضفادع الغطس لأكثر من 200 متر تحت الماء. وصلت طائرات عسكرية فرنسية حاملة غواصة آلية، تعمل على عمق 400 متر، إضافة إلى50 خبيراً فرنسياً، للمساعدة في عملية انتشال الصندوقين الأسودين وأشلاء 148 ضحية.
وخلصت لجنة تحقيق دولية، برئاسة رئيس لجنة حوادث الطائرات بسلطة الطيران المدني المصرية، شاكر قلادة، ومعه خبراء من سلطات الطيران المدني الفرنسي والأميركي، إلى أنّ سبب الحادث يعود إلى احتمال عطل في الطيار الآلي أدى إلى سقوط الطائرة، وتضمن تقريرها تحليلاً للمعلومات التي تم تفريغها من الصندوقين الأسودين للطائرة، اللذين عُثر عليهما بعد 10 أيام من الحادث، على عمق ألف متر.
كان بعض البحّارة أحياء حين استقرّت الغواصة في الأعماق
ومن لا يذكر كارثة الغواصة «كي 41 ـــــ كورسك» النووية الروسية التي غرقت قرب القطب الشمالي في 12 آب 2000؟ مصيبة تلك الغواصة هي أن من في قمرة القيادة أقفلوا على أنفسهم بمجرد حصول العطل حسب التعليمات، وكانوا ما زالوا أحياء حين استقرّت في الأعماق، ما أعطى عملية الإنقاذ التي دامت أياماً بعداً درامياً. الغواصة كانت من نوع أوسكار 2 ويبلغ وزنها 25 ألف طن وطولها 154 متراً وسرعتها 28 عقدة في الساعة، وتستطيع الغوص حتى 500 متر والإبحار 120 يوماً من دون توقف. وكانت تعمل بمفاعلين نوويين.
غرق الغواصة جاء في أثناء مشاركتها في مناورة بحرية في المياه الإقليمية النرويجية، حيث استقرت على عمق 108 أمتار، وكان من المفترض أن تطلق طوربيد مناورة على سفينة بقصد التدرب على الهجمات. وكانت تحمل على متنها طاقماً مؤلفاً من 118 شخصاً، إضافة إلى 24 منصة إطلاق صواريخ نووية.
طُرحت سيناريوات عديدة لغرق الغواصة، فقيل إنها أُصيبت بطوربيد من غواصة غير روسية، فيما تردد أن الغواصة الأميركية «يو أس أس ميمفيس» كانت ترصد المناورات وصدمت «كورسك». الرواية الرسمية تحدثت عن غرق الغواصة لعطل فني، وأن تفاعلاً كيميائياً طارداً للحرارة قد حصل بعد تسرّب مواد كيميائية من الطوربيد، تفاعلت مع صدأ موجود في أنبوب الطوربيد. ولم يكن أنبوب الطوربيد مقفلاً بإحكام، ما جعل قوة الانفجار تتجه إلى داخل الغواصة.
وشُكّلت مهمة إنقاذ مكوّنة من مجموعة شركات تحت اسم «مؤسسة كورسك». وكانت هذه المهمة في غاية الحساسية، لا لإخراج البحارة الروس من قاع البحر بداية، ثم جثثهم حين لم يستطع إخراجها وحسب، بل لمنع حدوث أي تلوّث من المفاعلين النوويين الموجودين على متن الغواصة أيضاً. وتمت عملية انتشال الغواصة من البحر باستخدام رافعات كبيرة، ثم تثبيتها تحت طوافة ضخمة. وبعد ذلك سُحبت الطوافة إلى مرفأ مورمانسك الروسي. وبلغت كلفة هذه العملية حوالى سبعين مليون دولار.
وفي التفاصيل، رست سفينة (صُنعت خصيصاً) فوق حطام الغواصة، وتم زرع برجين وربطها بـ26 كابلاً فولاذياً ضخماً) رُبطت بالغواصة، ثم شدت لرفع الغواصة إلى الأعلى، ثم أتت سفينة أخرى لاستخراج الغواصة، التي شُطرت إلى نصفين نظراً إلى وزنها الثقيل. واستغرقت عملية الإنقاذ نحو 36 ساعة على وجه التقريب.
وانتشلت أول دفعة من الجثث في عملية خاصة بدأت في تشرين الثاني 2000. لكن معظم الجثث انتشلت بعد رفع الغواصة من قاع المياه. وفي النهاية، جرى التعرف على جثث 115 من أصل 118 بحاراً انتُشلوا من الغواصة الغارقة.