خبُر أبناء منطقة الأوزاعي أمرين أكثر من غيرهم من اللبنانيين: مطار بيروت الدولي، والبحر. والاثنان أصبحا الحدث الأساسي اليوم. من المعروف أن الطائرة الإثيوبية أقلعت من المطار لتسقط على بعد 8 كلم في البحر. لكن، ماذا لو ــ لا سمح الله ــ لم تسقط الطائرة بعيداً هناك؟ ماذا لو انحرفت قليلاً وسقطت فوق سكان تلك المنطقة؟ أسئلة يُجيب عنها أهل البيت
قاسم س. قاسم
«لو الطيّارة واقعة فوق الجناح أو الأوزاعي، بالميّتة كانت بتمسح حي بكاملو»، يقول حسن عبدو، ابن منطقة الأوزاعي، رداً على سؤالنا. ففكرة سقوط طائرة فوق رؤوس الناس هنا، حيث السماء أشبه بممرّ للطائرات التي تقلع وتهبط على مقربة، لم تكن واردة من قبل، لدهشة السائل. لكن بعد مصيبة الاثنين الماضي، أصبح «كل شي معقول» كما يقول.
يقف عبدو أمام الفان ـــــ المقهى، يتأمل السماء، يبتسم ثم يقول مستطرداً: «بتصدق ما فكّرت فيها؟». هكذا، أصبحت رؤية الطائرات التي تمرّ مقابل المنازل إذا كانت تهبط على المدرج الغربي، أو فوق رؤوسهم، إذا كان هبوطها في المدرج الشرقي، أمراً عادياً لأبناء المنطقة.
أما صوت الطائرات، فهو لم يعد شيئاً مزعجاً لهم. فآذانهم خبُرت أصوات المحركات، وأصبحوا يميّزون نوع الطائرات وحجمها بمجرد سماع هديرها. «إذا ما منسمع صوت الطيران يومية منقول في شي غلط بالمطار»، يقول عبدو. يضيف: «تعوّدنا عليها، بس ولا يوم فكرنا تصير هيك كارثة». تسأله ماذا كان سيحصل لو انحرفت «لا سمح الله»، الطائرة قليلاً باتجاه الأوزاعي؟ يجيب: «بأكدلك أعداد الضحايا رح تكون أعلى، وكانت الناس رح تحترق ببيوتها بسبب وقود الطيّارة».
ورغم المخاطر التي يدركها عبدو، إلا أنه لا يفكر بتغيير مكان إقامته، مستهزئاً بمجرد طرح الفكرة عليه. «من سابع المستحيلات، نخاف هيدا الشي قضاء وقدر»، يضيف ساخراً: «الطيّارة بتمرق من فوق بيتي وما بخاف تعودنا على الطيّران، وكمان هواها بينعش بالصيفية، هيدا هوا مستورد يا حبيبي». إذاً، لا مكان للخوف في قلوبهم، لا بل حتى لو خاف بعضهم لا إمكان «لنغيّر مكان سكننا، الدولة قالت بدها تعمّرلنا بيوت، وتدفعلنا تعويض (مشروع أليسار) ما شفنا شي، أخدو أسامينا وراحو» يقول.
تترك عبدو بعد أن يعرض عليك بلال عساف، الذي كان يستمع للحديث، رؤية مدى قرب الطائرة من سطح منزله «فيك تشوف الركاب إذا بدك» يقول ضاحكاً. تتوجه معه ينبّهك مسبقاً: «الشغل اليوم على المدرج الغربي مش الشرقي، أنت وحظك إذا نزلت شي طيّارة على الشرقي». تسأله عن الفرق؟ «الغربي بتصير الطيّارة أمامك، إذا الشرقي بتصير الطيّارة فوقك». يشير الشاب بأصبعه باتجاه أعمدة صدئة، «كانت هذه الأعمدة تُضاء، فتهبط الطائرة على المدرج الشرقي، وهي تتبع ضوءها، أما اليوم فأصبحوا في أغلب الوقت يستعملون المدرج الغربي بعد بنائه».
من المنازل هنا «فيك تشوف الركّاب إذا بدك»
عساف الملمّ بحركة الطائرات في مطار بيروت ومواعيدها «لأنني بعمل أركيلة وبقعد راقبها وبعرف بأية أحوال جوية بيستعملوا المدرج الشرقي وأيمتى الغربي»، أصبح يتخوف من مكان إقامته. ببساطة «ماذا لو انفجرت الطائرة في الجو قبل أن تسقط، حطامها كان كفيلاً بتدمير بضعة بيوت» يقول، لكن «يلي بيجي من الله يا محلاه». يروي عساف كيف تركت كارثة الطائرة تأثيرها على أبناء المنطقة حتى لو من طريق المزاح، فأحد اصدقائه دفعه عندما مرّت طائرة فوقهما قائلاً له: «بعّد، يمكن توقع على راسنا». فجأة يصمت الشاب، يجيبك عمّا كنت تفكر بسؤاله»، قائلاً: «تصور كمان لو أن الجناح مش الطيّارة نزل على طرف الأوزاعي، شو كان بيصير؟»، ثم يجيب نفسه: «بتشيل ألف قتيل دغري». هكذا، دفعت كارثة الطائرة الإثيوبية عساف، بالتفكير بسلامة المطار ومحيطه. فمنذ فترة منعت القوى الأمنية الأهالي «من كشّ الحمام، لأنو علقت حمامة بمراوح محرك إحدى الطائرات»، يشير بأصبعه إلى فضاء منزله ويقول: «تفضل، العالم عم تكشّ وما فارقة معها». لحظات، يأتي والد بلال، حسني عساف ليشاركك أطراف الحديث. الرجل سكن المنطقة منذ الخمسينيات حيث لم يكن هناك «عمار مثل هلق».
يشير حسني باتجاه أبنية مرتفعة «هيدي كانت أرض المطار وكانت الدولة مسوّرتها، بس العالم عمّرت فيها». يضيف: «هناك كانت تركن الطائرات، لكن خلال عام 75 وبعد تهجير أبناء النبعة سكن الناس في ممتلكات المطار». فجأة ينبهك عساف «هاي طيّارة نازلة على المدرج الغربي إذا بدك تصوّرها». تراقب الطائرة تهبط أكثر فأكثر، يخيل اليك أن إطاراتها ستضرب أسطح المنازل. لحظات، حتى تمرّ الطائرة أمامك، تلمس إطاراتها أرض المطار، يتصاعد الدخان الأبيض منها، كأنه يرتفع من سطح أحد البيوت. «يا أخي مش مبسوطين بالقعدة هون، العالم اللي عايشة هون فقرا، وين ممكن نروح إذا بدنا نترك؟» يسأل والد بلال. ثم يعيد الرجل ما قاله ابن منطقته عبدو سابقاً «كان في مشروع قبل استشهاد الحريري بالتعويض علينا، أخدوا أسامينا ولحد هلق ما في شي». يخبرك حسني، كيف «اعتدنا النوم برغم من صوت الطائرات، مر خمسون عاماً على وجودنا بالقرب من المطار، وبعد هالعمر بتتعود على كل شي». وماذا عن خوفه من حوادث قد تحصل فوق منطقته؟ «هيدا قدرنا بكون، وما في الواحد يهرب من قدره» يقول الرجل. تترك العائلة متوجهاً إلى ميناء الأوزاعي، حيث المدرج الغربي لمطار بيروت. هناك لا يهتم الصيادون الممنوعون من الخروج بقواربهم، بما يمر فوق رؤوسهم كل عشر دقائق، فهمّهم الوحيد هو ما سيعلق بصنّاراتهم. تسأل أحد الموجودين بالقرب من المدرج، وقد رفض الكشف عن اسمه «لانني ابن دولة»، إذا ما سبّب سقوط الطائرة خوفاً لديه من مكان إقامته. يضحك الرجل ليجيب: «ابن الأوزاعي يا حبيبي ما بينام إذا ما سمع صوت الطيران، لهوّنها عليك: إذا عملت حادث بسيارتك بتبطّل تسوق سيارة؟ أكيد لا، وقعت طيّارة منبطل نام ببيوتنا؟ كمان أكيد لا».