بعض اللبنانيين ناقم على السياسيين، وبعضهم لمس في الموت ما قد يوحّد شعباً مزّقته التجاذبات خلال سنوات خلت. هكذا، نام الصندوق الأسود في عمق البحر، ولم تنم أسئلة المواطنين عن السبب. الناس خائفون من تكرار الأمور ذاتها، فتنام الحقيقة أيضاً، إلى جانب الأجساد البحرية، في وحشتها
أحمد محسن
منذ ثلاثة أيام، والحياة معطّلة في شوارع العاصمة. قلوب الناس تخفق لصور البحث عن حطام الطائرة، وعقولهم لا تتوقف عن استباحة التحقيقات. يريدون أن يفهموا ما الذي أتى بهذا الموت الكثير إلى بيوتهم. بعد ثلاثة أيام، تنسحب الصدمة تدريجاً من وجوه أصحابها. لكن، رغم كل شيء، الناس لا يمكنهم أن يسكتوا. في بلد الأسئلة الكثيرة لا بد من بحث مستمر عن أجوبة في صفوف المواطنين العاديين، في ضوء الصمت الرسمي المخيف. الأمر ليس مستغرباً، ما دامت الحركة السياسية الكثيفة قد اقتصرت على المؤتمرات الصحافية والوعود. لا جديد في الشارع، وتحديد مكان الصندوق الأسود ليس كافياً. منذ اللحظات الأولى للكارثة والناس يمطرون بعضهم بعضاً بالأسئلة والشائعات.
«أميركا ليست كاريتاس»
«إنه صاروخ إسرائيلي». نيبال، الطالبة العشرينية، مقتنعة بذلك. يزعجها حضور الأسطول الأميركي سريعاً، وتؤمن أنه أتى ليسطو على الصندوق الأسود. في رأيها، الأقاويل عن وجود أفراد من المقاومة على متن الطائرة ليست شائعات، و«إلّا فلماذا خرج السيد حسن نصر الله سريعاً؟ ولماذا ألغى النائب نوار الساحلي حجزه؟». لا تضع الحسابات الاجتماعية والسياسية للحزب في معرض تحليلاتها. نيبال مقتنعة بوجود «مؤامرة». شبابها ليس وحده سبباً للاندفاع، فعلي، سائق الأجرة الأربعيني، يزايد عليها في اتهام الأميركيين. لا يثق بهم. حتى لو وجدوا الصندوق الأسود، لا أحد يضمن له أن الأميركيين «لن يسرقوه». ورغم هول المأساة، وتأثره الشديد بالعدد الكبير من الضحايا، يعزز تحليلاته بمزحة: «أميركا ليست كاريتاس». وفي سياق «التحقيق الشعبي» المتواصل، توافقه إحدى الراكبات. ابن تلك السيدة مهندس ميكانيك، كما تقول. أخبرها أن الطائرة حديثة، مستبعداً وجود أيّ أعطال فيها. وعلى هذا الأساس، ترى أن الحديث عن خلل تقني «ضحك على الناس». ولولا بعض الأجساد التي طافت على سطح البحر، لكان كل شيء مجهولاً بالنسبة إلى ركاب تلك السيارة، ولربما امتدت تحليلاتهم إلى «ما بعد بعد الأسطول السادس». هكذا، خرج كلّ ليفسّر الحدث على طريقته، فعلى عكس علي، ونيبال، رحبت ساندرا بالتدخل «الأميركي الإنساني السريع». خالفتهما رأيهما تماماً، وجاء ترحيبها على خلفية إنسانية صرفة، كما تقول. هكذا، هم اللبنانيّون أبداً، وحّدتهم الفاجعة، وعبثت السياسة بمحاولات انتظارهم. انتظار ما يسمّونه هنا «الحقيقة».
التيار المنفعل X التيار العقلاني
يمكن أن يفسّر رد الفعل الشعبي على مأساة الطائرة الإثيوبية الميل اللبناني الطبيعي إلى السياسة. كثر الحديث عن الخطوط الجوية اللبنانية، كأنّ كل الرحلات السابقة إلى أفريقيا كانت تنجو «بعون الله». خرجت بعض الغرائز فجأةً، من رحم الألم، لتستعيد خطاباً طائفياً في غير توقيته الآن تحديداً. حسن، الموظف في أحد مصارف بيروت الكبرى، لا يقيم للفاجعة اعتباراً. يرى أن «طائفته مستهدفة». لا يجد حرجاً في إعلان ذلك، متخطّياً حجم المصيبة. وعلى رغم «وجود طوائف أخرى على الطائرة» فإن حسن «يعود إلى الأسباب». ووفقاً لمعطياته، لكونه ينتمي إلى إحدى القرى الجنوبية، يربط حادثة تحطّم الطائرة بالإهمال الذي «يلاحق الجنوبيّين منذ دهر». زينة تتخطّاه في تقديراتها. تستعيد المناورات الحربية الإسرائيلية المستمرة، وتذكّر بعدم وجود أي ملاجئ في الجنوب، رغم ما حل بالناس بعد حرب تموز. الطائرة فرصة للشارع، كي يخرج من داخله كائن الخوف، ويضعه على طاولة الحدث. كانت زينة تريد أن تسافر، لكن بعد السقوط الجوي الأخير، صارت تخشى السفر أيضاً.
في الضفة المقابلة من الشارع، مواطنون حصروا غضبهم في دائرة محددة. الحزن على الضحايا. عبد الله أحدهم. يرى أن الشعب اللبناني يجب أن يتخلى عن كل الاستنتاجات التي اعتادها مع كل حدث «المحنة أهم». يحاول أن يكون عقلانياً، متخلّياً عن أي انفعال مفترض «صحيح أن الإهمال صفة تتّسم بها الدولة هنا عادةً، لكن

اللبنانيون متّحدون في الألم ولا شيء سواه
التصرف الرسمي كان مسؤولاً هذه المرة». حتى الآن عبد الله مقتنع بما آلت إليه الأمور شكلياً، وأسهم تحديد مكان الصندوق الشهير في صموده على هذا الاعتقاد. عبد الله مع استخلاص العبر من الموت، ومع النظر بإيجابية إلى المستقبل «كي لا تتكرر أخطاء الماضي». هذا التفاؤل، يقابله تفاؤل أقل حذراً من سيلين، صاحبة أحد المحال التجارية في الدكوانة. تظن الأخيرة أن العطل تقني صرف، ولا مصلحة لأحد بقتل الأبرياء بهذه الطريقة البشعة. تستبعد «نظرية المؤامرة»، ولا يهمها الدولة واليونيفيل. سيلين حزينة على اللبنانيين الذين لم يعودوا، وبودّها تقديم الورود إلى عاملات إثيوبيا.
في الشارع، لم تكن صاعقة ولم يكن عطلاً فنياً، فاللبنانيون لم يقتنعوا بعد بكل الفرضيات المتداولة إعلامياً. نحن هنا، أمام شعبٍ يحلل على مزاجه. يستحضر كثيرون نظرية المؤامرة إلى ارتفاع آلاف الأقدام جواً، ويفسرها على عمق 1300 متر في قعر الأبيض المتوسط. شعب يرحّب بتدخل الولايات المتحدة الأميركية في عين الرمانة، وينزعج منه في الشياح، فيما يرقد الضحايا ذواتهم في البحر ذاته. رغم قسوة الموت، ما زال المتألمون، فريقَين، كلٌّ له حقيقته التي قد تكون مختلفة تماماً عما قد تكون الحقيقة فعلاً.
اللبنانيون بشر. يشعرون بالألم نفسه إذا مزّق الدمع عيونهم في لحظة الموت. متّحدون في هذا الألم ولا شيء سواه. أما في أجوبتهم عن سبب الكارثة، فبالتأكيد هم منقسمون: شعبان اثنان، ثالثهما ينام موجوعاً خلف البحر.