هدم البيوت التاريخية لا يتوقف! والسبب يعود إلى أسعار العقارات الخيالية وإلى عدم وجود أي قانون يحمي هذه الأبنية التي تحوي بين جدرانها هوية مدينة وتاريخها
جوان فرشخ بجالي
جلس سبعة اختصاصيين في عالم الهندسة والتراث والترميم ينقاشون ويعرضون على حفنة من المهتمين موضوع تدمير بيوت بيروت التراثية. هدف النقاش الذي دعت إليه مؤسسة سمير قصير إلى إعادة موضوع المحافظة على بيوت بيروت إلى الواجهة. فهوية العاصمة باتت على المحك بسبب التدمير القائم. رأت منى حلاق المهندسة والعضو في جمعية APSAT أن «أساس المشكلة يكمن في عدم وجود أي قانون خاص بالأبنية التراثية، فهي تتبع حتى اليوم قانون الآثار الذي يحمي البيوت المصنفة على لائحة الجرد العام فحسب. وبالتالي، أصبحت المحافظة على بيوت بيروت القديمة تقوم على حسن نية المالكين». وأعطت حلاق لمحة مختصرة عن مشكلة المحافظة على نسيج بيروت العمراني، التي بدأت في تسعينيات القرن الماضي. وترى حلاق أن «المحافظة الصحيحة يجب أن تحصل في تماسك النسيج العمراني، أي المحافظة على منطقة واحدة في مختلف أوجه حياتها. بيوت قديمة مع سكانها ودكاكينها وأزقتها وحرفييها، ذلك هو النسيج العمراني الذي يعطي للمنطقة هويتها النابعة من نمط الحياة الخاص بها».
وفي عام 1995 عمل فريق من المهندسين على تحديد المناطق التي يجب المحافظة عليها، لكونها تحوي هذا النسيج، فكانت النتيجة سبع مناطق تحيط بوسط بيروت وعدداً من الأبنية يصل إلى 1016! ولإبراز سياسة الدولة اللبنانية، بعد التوصل إلى هذه الخرائط، عملت الحكومات على إعادة تحديد الخرائط في بيروت لتقليص عدد المباني. وأدرجت لوائح «لتحرير» البيوت من التصنيف، فأتت اللائحة الثانية بـ520 منزلاً يمكن هدم 250 واحداً منها. وبالطبع، وافق مجلس الوزراء على هذه اللوائح التي يعمل على أساسها اليوم لهدم بيوت بيروت القديمة، وقد أزيل 77 منزلاً مدرجاً خلال السنوات القليلة الأخيرة.
وبما أن سياسة الدولة الحالية تقضي أولاً وأخيراً بعدم المحافظة على التاريخ، لا يزال مشروع قانون حماية الممتلكات الثقافية الذي أقرّه مجلس الوزراء يدرس في اللجان النيابية منذ أكثر من سنتين! وفي انتظار تغيّر ما على صعيد الدولة، أتمّ أفراد من المرصد المدني «مجال» مسحاً شاملاً للأبنية التراثية في بيروت لتحديث الخرائط والتأكد مما أزيل ومما بقي صامداً. وقال مدير المرصد والمدرس في جامعة الالبا ـــــ البلمند، سيرج يازجي، إن «المحافظة على المباني الباقية لن تتحقّق إلا من خلال الدعم السياسي للمشروع، لذا يجب أن يخرج النقاش من نطاق الجامعات واللجان الأهلية والجمعيات، ويجب العمل لأخذ الدعم الفعلي والحقيقي من أصحاب القرار والنفوذ». وكانت «مجال» من الرواد في إطلاق مشروع «الدرب السياحي لاكتشاف زقاق البلاط»، الذي انطلق في تشرين الثاني الماضي وهدف إلى تعريف الناس بمنطقة زقاق البلاط التاريخية. ولكنّ المشروع، بحسب اليازجي، «أساء إلى زقاق البلاط أكثر مما أفادها». فهناك معضلة تطال المحافظة على البيوت التاريخية وتسليط الضوء عليها، إذ إنه كلما يُلفَت نظر المهتمين إلى بعض البيوت القديمة والمهمة هندسياً أو اجتماعياً يسارع أصحاب العقار إلى تخريبها لدرجة أنها تمس السلامة العامة فتهدم. وهذا ما يحصل اليوم مع بيت السيدة فيروز في زقاق البلاط. فخلال مشروع «الدرب السياحي»، أُدرج المنزل على جدول الزيارات، ما دفع بلدية بيروت إلى العمل على شرائه بهدف المحافظة عليه. «لكن، قبل أن تنتهي معاملات الشراء، بدأ صاحب العقار بتخريب المبنى ما سيؤدي على الأرجح إلى هدمه»، هذا ما أكده العضو في مجلس بلدية بيروت رالف عيد. وقال عيد إن «البلدية تتضامن مع أفراد المجتمع المدني وتطالب بالمحافظة على البيوت القديمة لكي يبقى لهذه المدينة هوية، وخاصة أنه ليس لها أي «كلمة» في موضوع المحافظة، لأن قرارات الهدم تصدر من المديرية العامة للتنظيم المدني ووزارة الثقافة. وأكد أن البلدية مستعدة لأن تستملك العقارات المهمة إذا تطلّب الأمر ذلك». هنا، يجدر التوضيح أنه يمكن هدم البيوت المصنفة إذا ما حصل المالك على ورقة من بلدية بيروت تفيد بأن المنزل مصدع ويمثّل خطراً على السلامة العامة! ويردّ عيد بأن البلدية ليس لها شرطة لتضعها على البيوت المصنفة، ولا يمكن تفادي هذا الواقع إلا بإصدار قانون يحمي هذه الممتلكات وينصف أصحابها ويردعهم في آن واحد عن المساس بها. ويطالب عيد بقانون بناء خاص بمدينة بيروت يعمل على أساسه للتصنيف والمحافظة.
وكانت القوانين الخاصة بالمدن القديمة قد بدأت تشق طريقها في لبنان عبر مشروع الإرث الثقافي حيث صدر قانون موحّد لصور وطرابلس وبعلبك وجبيل يحدد كيفية المحافظة على النسيج العمراني في الأحياء القديمة. وقد تطلّب إصدار هذا القانون 6 سنوات من العمل الدؤوب، وعامل الوقت هو ما لا تملكه بيروت! فالوقت هو حالياً أكبر عدو لهوية بيروت وبيوتها التراثية. فكلما ارتفعت أسعار العقارات ازداد الضغط على الأبنية التراثية ومالكيها، وتقدمت بيروت القديمة خطوة نحو الهاوية، لتصبح هذه المدينة العريقة أشبه بدبي وشانغهاي وغيرهما. مدن بنيت بلا ماضٍ، أما بيروت التي تعمل على تقليدهم فتدفن ماضيها بيدها.