شارع فريد من نوعه بين شوارع العاصمة. منذ مئة عام، أبصرت متاجره النور في منطقة برج حمود. يمكن بسهولة اعتباره بمثابة «معرض المنتوجات الحلبية الغذائية». نحن في شارع «مرعش» حيث في محال العطارة ما يدهش الزائر
محمد محسن
يكاد مدخل شارع «مرعش» في منطقة برج حمود يشبه وردة مجففة تتساقط بتلاتها من صفحات كتاب جديد، حتى وإن كانت زيارتك له هي الأولى، لن تضل السبيل إليه. على الفور، يخبرك شارع «مرعش» عن نفسه. فبين الأحياء التي تزدحم واجهاتها بجديد المصنوعات، يستفيق الشارع القديم ويغفو على رائحة التوابل والبهارات والمنتجات الغذائية التراثية المستوردة من مدينة حلب في سوريا. بديهياً، الرابط بين منتجات حلب وشارع في برج حمود لا يبدو مستغرباً، إذ يقطن أكثر من مئة ألف أرمني في سوريا، يتركز معظمهم في حلب. ولا حاجة هنا لتأكيد حجم تعلق الأرمن بعضهم ببعض أينما وجدوا.
في ساعة الذروة ظهراً، وصلنا إلى «مرعش». شارع بسيط، يشبه بتنوع محاله وبلاطه المحجّر سوقاً من الأسواق القديمة في سوريا. السيارات زائر ثقيل الظل، بينما يحتفظ المارة بحرية الحركة حتى خارج حدود الأرصفة. تدخل زمناً ماضياً جميلاً، ينأى تماماً عن ذلك المعولم الذي نعيشه. المحال بلاطها كما الشارع، قديم ولكن مزخرف. هنا، لا وجود للغذاء المصنّع.
يرميك كل تاجر بكلمات الترحيب، وتكمل هذه العملية أصناف المأكولات المرتبة على البسطات وداخل المتاجر. أصناف لم ترها من قبل خلال الزيارات إلى محال العطارة، فهي غير مدرجة ضمن اللائحة الغذائية «المعتمدة» على موائد كثيرة. تسأل، أين المنتجات الحلبية؟ يفاجئك نرسيس خانو بالحديث عن منتجات مقلّدة، أو بالحد الأدنى تشبه ما تفيض به سهول حلب ولكن من سهول أخرى.
فالزبيب أصبح أميركياً، والملبن يصنّع في لبنان، أما الجبنة والشنكليش فمن لبنان أيضاً. وحين تسأل التاجر عن السبب، يجيبك بوضوح «فارق العملة وارتفاع أسعار المنتجات الحلبية، أديا إلى العودة عن شرائها، واستبدالها بالمواد الأجنبية». يضيف سبباً يرتبط بتغير الثقافة الغذائية لدى مختلف الأجيال «اللي تعودوا على الأكل الحلبي هاجروا من زمان. حتى الناس، لم يبق معهم أموال ليشتروا بضائع بهذه الأثمان».
هكذا، تغيرت الصورة المطبوعة في الذهن، عن الشارع المليء بالمنتجات الغذائية الحلبية. تتجه شمالاً، تسأل عن حبال مصفوفة على بسطات. تشعر بحلاوة طعمها قبل أن تتذوقها. يجيبك أبو هاروت بالقول «ملبن عنقودي، محشو بالجوز والعنب. كان يأتي من حلب والآن نحضره من تركيا» والسبب هو أيضاً فارق العملة. أرمنياً، الملبن العنقودي هو «سجق حلو».
إلى الأمام شمالاً، تدخل إلى محل بالغ الترتيب ومتعدد المنتجات بوضوح. في الداخل، فتاة كستنائية الشعر، توضب «المستيق». ما هو؟ حلويات خضراء داكنة اللون، مصنوعة من العنب المجفف. تشبه قطع «قمر الدين». تستعمل في الأعياد كضيافة للزوار، أو كشراب بعد نقعه في الماء، أو عبر حشوه بالجوز بعد مدّه على طاولة مسطّحة. في المتجر الذي يملكه العم غارو طاشجيان منذ 60 عاماً، وتديره ابنته آزاد، لا مكان إلا للمنتجات الحلبية الأصلية. لكن التجار يتحدثون عن فارق العملة الذي حدّ من وصول المنتجات الحلبية. تستغرب حديثهم وتجيب بأن فارق العملة ينعكس على كل المنتجات وعلى السوق العالمية للمادة الغذائية وليس فقط على منتجات حلب. أمام باب المحل، أوعية مليئة بما لذّ وطاب: زيتون يشبه الخوخ حجماً، ومعجون الحر الطبيعي غير المصنع. تتدلى حبال الباذنجان والقرع المجففة، كأقراطٍ تزين وجه المتجر. هي سلعة لا بد أن تجدها فوق باب كل محل.
تحت خزانة صابون الغار الأصلي (سعر الكيلو 20 ألف ليرة) براد مقفل بإحكام. تلمع من تحت زجاجه أنواع من الأجبان الناصعة البياض. جبنة حلوم وجبنة حلبية وأخرى مجدولة، يطلبها الزبائن لقلة ملوحتها. أما الكيلو منها، فليس باهظ الثمن: 8000 ليرة. لم تنته سبحة المنتجات الحلبية عند هذا الحد. مكانس حلبية لا تنفك ربات المنازل يطلبنها، حتى ولو كلف الأمر مشواراً من شوارع متخمة بدكاكين تبيع مكانس مصنّعة. أما الملابن المحشوة فيرتفع سعرها تبعاً لسعر الجوز أو الفستق الحلبي، لكن إجمالاً يبلغ معدل سعر الكيلو منها 20 ألف ليرة. وفي إحدى الزوايا، تتدلى حبال البامياء اليابسة. بدا واضحاً تركيز سكان المنطقة على المنتجات المجففة، وخصوصاً في غير موسمها. في محل طاشاجيان، تتكدّس في ركن خلطات الزهورات، وبعيداً عنها، أنواع من الزعتر الحلبي. في الخارج، فسيفساء من الحبوب. فاصولياء، قمح، فريك، برغل، وكلها «شغل حلب». شارع «مرعش» صغير جداً. ليس تجارياً بالمعنى الدقيق للكلمة. مهمة الكثيرين الحفاظ على أصالته.