strong>مع أوّل برقية عن وقوع الكارثة، استنفر المسعفون وانتشروا على الشواطئ وفي المستشفيات. لولا أن بزّاتهم تميّزهم عن الباقين، لظننت حين ترى عملهم، أنهم من أهل الضحايا. منذ اللحظات الأولى لسقوط الطائرة، لم يذق هؤلاء طعم الراحة، أما دموعهم فمؤجّلة إلى لحظات الوحدة
محمد محسن
رأى كمال جسماً يتحرك بين الأمواج العالية. لاح شيء من الجسم يمنةً ويسرة. «لا بد أنه أحد الناجين ممن قذفتهم الأمواج نحو الشاطئ، قال في نفسه، وما يتحرك هي يده». على الفور، أبلغ المسعف في الدفاع المدني غرفة العمليات التي أرسلت زورقاً سريعاً لانتشال «الناجي». أسرع الزورق نحو «نقطة النجاة»، لكن، لم يعد ومعه رجل ملفوف بغطاء كما يفعل المسعفون عادةً مع الغرقى. هكذا، لعبت الرياح والأمطار لعبتها مع المسعف. موّهت كل شيء في أفق البحر. فما ظنّه كامل أحد الناجين من الطائرة، لم يكن إلا طائر نورس بدت أجنحته عن بعد، يداً ترتفع بين الموج وتطلب الإنقاذ. كان هذا في اليوم الأول، أما في اليومين الثاني والثالث، حين انقشعت الرؤية، فلم يضحك البحر للمسعفين، كل ما لفظه بعض الأشلاء فقط.
في قصة الطائرة الإثيوبية المتحطمة، أصبح المسعفون وصفاً مع وقف التنفيذ. لم يجد أصحابه من يسعفونه أصلاً. لكن، وبرغم شبه انقطاع الأمل بالعثور على ناجين، بعد ساعات من الكارثة، انتشروا لتقديم كل ما يمكنهم أن يفعلوه. لا يعرف قصصهم أثناء الكارثة غيرهم. هم الممنوعون من الحديث إلى الصحافة، وحتى إلى أهالي المفقودين. ثلاثة أيام من العمل المتواصل. ثمّة مفارقة مزعجة حكمت عملهم المضني. فعادةً، ينتظر الجرحى أو الناجون مسعفاً يأتيهم بالنجاة، أما الآن، فالآية معكوسة: المسعفون بانتظار ناجين لم يأتِ منهم للأسف الشديد، «مبشّر».
أمام شاطئ خلدة مباشرةً، ينتشر عدد من مسعفي الدفاع المدني. تحاول الاقتراب منهم، فيمنعك رجال الأمن. تلتف على الصخور لتصل إلى أصحاب البزات الكحلية والفوسفورية. هناك، مشكلة أخرى: ممنوعون من الحديث إلى الصحافة. تحاول جاهداً إقناعهم، إلى أن يقبل وليد (اسم مستعار) أن يتحدث بعد التأكد من تغيير اسمه.
لوليد طفلان اشتاق إليهما كثيراً. منذ ثلاثة أيام، والمسعف بعيد عن أبنائه. لا يخجل من إبداء شوقه لهما، لكن «لا أترك زملائي وأهل الضحايا في هذه المصيبة». الراحة ممنوعة، وأطول وقت لها هو نصف ساعة. تتبعه نحو «سنسول» بحري مجاور، بعدما أُخبر ورفاقه بوجود حطام من الطائرة. على الشاطئ، ينحني ويرفع قفازاً صوفياً ملوناً لطفل، يشمّه ويقول: «إنه محترق». هكذا، تحوّل وليد وزملاؤه من مسعفين إلى باحثين، ينتظرون، رغم انقطاع الأمل، أي ناجٍ أو حتى جثة تطفئ شوق أهل إحدى الضحايا. أكثر ما يزعجه في أثناء العمل «بعض الصحافيين ومعلوماتهم غير الموثوقة، بعض الناس مثلهم يحبطون عملنا».
في مستشفى بيروت الحكومي، تنتشر سيارات إسعاف لجمعيات أهلية، هناك، للمسعفين دور مختلف عن أولئك المنتشرين على الشواطئ. هم على تماس مع أهالي الضحايا. ممنوع عليهم إفشاء المعلومات «التي تصدم أو تقطع الأمل». يأخذك وائل (مسعف في الهيئة الصحية) جانباً. يبدأ حديثه عن التجربة الصعبة. هو المشارك في استقبال ضحايا طائرة كوتونو، يؤكد أن كارثة اليوم موجعة أكثر. لحظات الانتظار في المستشفى، أقسى من أي شيء آخر، وخصوصاً حين لا تنتهي بإحضار ناجين. لا يخفي سرّاً حين يحدثك عن اليوم الأول. كان يمنّي نفسه بأن يجد أحياء. منظاره الذي استعمله لم ينقل له من البحر (مداه 800 متر) أي مشهد «لمعجزة النجاة». يبوح الرجل العشريني بمشاعره، الممنوعة من الظهور أمام الناس. بكى لمنظر الأمهات في المستشفى «شعرت أن كل واحدةٍ منهنّ أمي. فكرت في أمي فيما لو كنت من بين الضحايا». يشير إلى أن مهمة المسعفين في المستشفى هي كالآتي: «مساعدة الأهالي وتأمين ما يلزمهم» وعبر جهازه اللاسلكي، يطلب من زميله «إحضار كراسيّ للأهالي الواقفين». جنود مجهولون، لولا عملهم، لما أطلق أحد تصريحاً على الشاشات، من أمام باب المستشفى، أو فوق توابيت الضحايا.