«إنها لعنة أفريقيا، والأخبار في بيروت وليست هنا»، جملة يُجمع أهالي الضحايا في قرى منطقة صور على جعلها إجابة عن الأسئلة. فهؤلاء لم يملكوا طوال النهار سوى انتظار اتصال من بيروت ممّن انتدبته العائلة لتعقّب أثر ابنهم المفقود
آمال خليل
سبع بلدات من قضاء صور وواحدة من قضاء الزهراني فُجعت ببعض أبنائها الذين استقلّوا الطائرة، قاصدين دول اغترابهم في أفريقيا. معظمهم له باع طويل في الإقامة بين دول أفريقيا، حيث لهم مصالح تجارية، ومنهم شبان كانوا يمضون عطلة الأعياد للمرة الأولى بعد سفرهم إلى أفريقيا للعمل. وقد درجت العادة أن يستقل المغتربون الخطوط الجوية الإثيوبية للوصول إلى دول الغابون وأنغولا ونيجيريا وسيراليون وغيرها، لأن الخطوط الجوية اللبنانية لا تسيّر رحلات مباشرة إليها.
وحدها هيفاء الفران (45 عاماً) لا تملك صلة مع أفريقيا. فقد ساقها قدرها إلى ركوب الطائرة المنكوبة بهدف السفر إلى أفريقيا للاطمئنان إلى شقيقها بسبب حادث ألمَّ به. إلا أن هدفها يَتّمَ ستة أولاد جلسوا أمس يلوذون بصمت خيّم على بيت الأسرة في صور. بضع نسوة ارتدين الأسود حداداً من تلقاء أنفسهن وتوافدن إلى منزل هيفاء بنية اتفقن عليها ضمناً: هيفاء قد ماتت. إلا أنهن تحاشين التعبير عن ذلك أمام أبنائها وأخواتها الذين كانوا حتى المساء ينتظرون اتصالاً من زوجها خضر يخبرهم أنها لا تزال على قيد الحياة. ضياع خضر بين المطار ومستشفيات بيروت لم ينتج حتى من العثور على جثة هيفاء. وبالرغم من ذلك فرضت بناتها حكماً عسكرياً يمنع البكاء والنحيب حتى جلاء الحقيقة والويل لمن يتفوه بـ«العوض بسلامتكم».
15 ضحية في بلدات العباسية، دير قانون رأس العين، حناويه، الخرايب، زبقين، جويا والبازورية
الارتباك الواقع بين الحداد والأمل بالنجاة، خيّم على بيوت خمس عشرة ضحية في بلدات العباسية، دير قانون رأس العين، حناويه، الخرايب، زبقين، جويا والبازورية التي لم يصلها الخبر اليقين عن أبنائها حتى المساء. وحدهم ذوو حسن تاج الدين في حناويه، ومحمد الحاج في جويا، سمح لهم الحظ بأن لا تفترسهم الحيرة في انتظار أمل غير مضمون. فقد أُعلموا منذ ما بعد الظهر بأن جثة تاج الدين قد تعرف إليها وزير الصحة محمد خليفة، بالإضافة إلى جثة الحاج وابنته جوليا ونقلوا إلى مستشفى صور الحكومي. لا بل إن وزير الصحة، محمد جواد خليفة، روى أن حسن تاج الدين زاره في منزله عند العاشرة والنصف من مساء أول من أمس (الأحد)، وقد ذكر له رحلته إلى أفريقيا بواسطة الطيران الإثيوبي، فاستغرب خليفة سائلاً زائره: لماذا لا تشترون (في إشارة إلى الأخوة علي وقاسم وحسن تاج الدين المعروفين كرجال أعمال) طائرة خاصة تتنقلون بها، ولا سيما أن أسفاركم كثيرة إلى أفريقيا؟ فأجابه حسن: نتنقل عبر الشركة الإثيوبية للطيران، إذ لديها طائرات حديثة، وسجلها معروف بالنسبة إلى السلامة العامة، ولم نسمع عن أي حوادث وقعت على متن طائراتها».
عند مدخل حناويه التي أثرتها ثروات أفريقيا، تستقبلك صورة شيخ البلدة السابق علي خاتون الذي قضى في حادثة طائرة كوتونو قبل بضع سنوات. البلدة التي نذرت ولا تزال المئات من أبنائها على مذبح العيش الكريم المصنوع في أفريقيا، قدمت في كوتونو ثلاث ضحايا، وقدمت اليوم ثلاثة شبان جدد، هم حسن وابن عمه علي تاج الدين وجارهم عفيف كرشت. يرى البعض، ومنهم هدى زوجة شقيق حسن، أن ما حصل هو «ثمن الجهاد في الغربة، حيث نعاني الأمرّين لتوفير العيش الكريم لأولادنا بعدما تخلى عنا الوطن». وتشير إلى أن حسن قد وصل إلى لبنان قبل أسبوعين لدفن والدته التي «عندما حُرم دعاءها مات».
جويا أيضاً، التي قدمت في كوتونو خمس ضحايا، ها هي تقدم خمس ضحايا أخرى، من بينهم طفلة الحاج، جوليا (3 سنوات)، علماً بأن البلدة لم تقفل حسابها مع أفريقيا منذ كوتونو، فقد قدمت ثمناً لعشرات القصور الفارهة التي تشتهر بها من جنى أفريقيا، عدداً من أبنائها الذين سقطوا قتلاً على أيدي أفارقة بهدف السرقة أو الإرهاب، وآخرهم قبل عام تماماً، علي نزّال الذي قضى مع ابن شقيقته حسن زين برصاص مسلحين في غينيا بيساو.
أما الخرايب، فقد فقدت ابنها محمد عكوش (26 عاماً)، وهناك أربعة من العائلة ذاتها كانوا قد قضوا في كوتونو. وكان أحد أبناء بلدة طورا قد أُعيد جثة هامدة قبل أيام من بلد اغترابه في أفريقيا، بعدما قتله مسلحون مجهولون.