شاطئ خلدة، هو الآخر، لم يكن مستعدّاً لكارثة الطائرة الإثيوبيّة. فأكوام النفايات المنتشرة على طوله راحت تختلط بحطام الطائرة الذي قذفه البحر إلى الشاطئ، أمام أعين الصحافيّين والفضوليّين
ضحى شمس
المخدّة الصغيرة المنتفخة بمياه البحر، التي قذفها الموج بين مئات الفضوليين الذين وقفوا متفرجين على شاطئ خلدة أمس، كان واضحاً أنها من حطام الطائرة الإثيوبية المنكوبة التي تحطمت فجراً قبالة ذلك الساحل.
هكذا، ركض أحد المتجمهرين والتقطها من فم الموجة العالية، التي كانت تقذفها صوب الشاطئ، ثم استردها وهي تنسحب صوب البحر. رفعها الرجل بأطراف أصابعه والمياه تسيل من طرفها أمام أنظار الجمهور كالغنيمة، قبل أن يعود فيلقيها فوق كومة من الأغراض الأخرى التي جمعها رجال الضفادع البشرية فوق الرمال. «إثيوبيان وينغز» كان مكتوباً على الأتيكيت الملتصقة بالمخدّة باللغتين الإنكليزية والإثيوبية، التي كانت ترتجف في الهواء العاصف هنا على الشاطئ. «إثيوبيان وينغز» أو «ايرلاين» ستتكرّر على بعض الحطام المعدني الذي انتشله عناصر الضفادع البشرية التابعون للمغاوير البحرية في الجيش اللبناني من قبالة الشاطئ. هؤلاء، كانوا لا يزالون يغطسون ويعودون بقطعة من هنا ومقعد من هناك. ثم يقفون بملابسهم المانعة للمياه والملتصقة بأجسادهم، يتداولون في ما بينهم، ثم يغطسون. ومن بعيد، كان صعباً، وسط أكوام الزبالة المعيبة المنتشرة على امتداد الشاطئ الرملي المحاذي لمدارج المطار، أن تميّز ما قد يكون البحر قد قذفه من حطام ما كوّمه البحر من نفايات من كل شكل ولون ونوع. تتفحص كومة بعينها انكبّ المصورون الصحافيون على تصويرها: فوط صحية نسائية في علبتها، مظاريف الشاي والزهورات كُتب عليها اسم الطيران الإثيوبي أيضاً، إضافةً إلى بعض القطع من عربة الطعام.
«إثيوبيان ايرلاينز» أيضاً كتب على ظروف الشاي الصغيرة المنتفخة بمياه مالحة عوضاً عن تلك التي كان يجب أن تنقع فيها، لتدفئة جوف ركاب أقلعوا قبيل الفجر من مطار بيروت إلى قدرهم. «خليهم يقلبوا الأغراض شوية»، يصيح أحد المصورين بعناصر الجيش اللبناني، مردفاً: «كيف بدو ينعرف بالصورة انو هودي من الطيارة مش زبالة؟». يبدو أن الجيش من طريقة نشره لعناصره بين جماهير الفضوليين وبين البحر، كان متخوفاً من نهب ما يمكن أن يقذفه البحر من حقائب المسافرين الغرقى. تتذكّر ما حصل لطائرة كوتونو في بنين منذ ست سنوات. تسأل الجندي: «خايفين من النهب ما هيك؟»، فيؤكد من حيث أراد النفي: «ما عم يلاقوا شي حتى ينهبوا»، يقول مبتسماً بتعب.
تتفحص الحطام المكوّم، فتميز عبارة دون غيرها على قطعة من البلاستيك: «اسحب القناع إلى الأسفل لتحصل على الأوكسيجين». تميّز أيضاً كرسيّ طائرة بلون أزرق غامق، بدا من اتساعه أن مصدره الدرجة الأولى، فيما «رقد» كرسي من الدرجة الاقتصادية ـــــ أيضاً كما يبدو من صغره، فوقه، وقد «نبق» إسفنجه المترع بمياه البحر من داخل الجلد المائل إلى الاصفرار. تستنتج من ألوان الحطام المعدني التي رُسم عليها بالأصفر والأحمر والأسود أنه بقايا رسم علم إثيوبيا على هيكل الطائرة. الأرجح أن ما نجده هنا من حطام مصدره ذيلها.
خمس فتيات إثيوبيات وصلن إلى المكان. تلحق بهن لتسألهن إن كان لهن أحد على متن الطائرة المنكوبة، فتقول إحداهن وقد بان القلق على وجهها: «ابنة خالتي». تسألها عن اسمها، فلا تجيب. تقول لك صديقاتها أن تتركها وشأنها، فتتركها. وجدت الفتيات أنفسهن فجأةً محط الأنظار. يجلسن على الصخور الضخمة المتراصّة كجدار داعم لمدرج المطار المحاذي، ينظرن إلى الأفق الرمادي الملبّد بالغيوم مراقبات سفينة الإنقاذ البعيدة وطوّافات ثلاثاً تحوّم فوق بقعة افترضْنا أنها المكان الذي غرقت فيه الطائرة. قال لنا الدفاع المدني إن ما يجري انتشاله من جثث تنقله الطوافات مباشرةً إلى المستشفى. تقلع طائرة من المدرج خلفنا، فلا تحظى بنظر أحد.
الناس هنا يسكنون بالقرب من المطار، وقد اعتادت آذانهم ضجيجها. تطوف بمئات المتجمهرين سائلاً إن كان أحدهم يقف هنا من أجل قريب له على متن الطائرة، إلا أنك لا تقع إلّا على فضوليين. طيب، هل شاهد أحد منهم الطائرة وهي تسقط في البحر؟ يصيح يوسف الطويل (25عاماً)، أنه رآها. يقول: «فيّقني جوز خالتي على الساعة 3 إلّا ربعاً تقريباً، شفت شي متل ضو بالبحر بعدين انطفأ». تؤكد فاطمة ناصيف (16 سنة) الرواية. تقول إن قريباً لها يعمل على عين المريسة في فان «إكسبرس»، وإنه اتصل بهم ليقول إن طائرة تحطمت مقابل الشاطئ. تقول «اتطلعنا من الفرندة شفنا ضو بالبحر متل كأنو نار شاعلة. بعدين ركضنا على السطح حتى نشوف أحسن، كانت خلص ما بقى مبين شي، غرقت يمكن». يصيح أحدهم: «في شقفة كبيرة ليكو ليكو»، وهو يدل إلى شيء كان الموج العالي يحمله. يركض عناصر الضفادع البشرية، يخوضون في المياه ثم يسحبون ما يبدو أنه مجرد مقعد آخر. أي قطعة مهمّة من أجل التحقيق في أسباب سقوط الطائرة. لكن لا تتاح لنا حتى فرصة رؤيته بسبب تراكض مئات الفضوليين والصحافيين وتجمّعهم فوق الرجل. على كل حال، كان المكان هنا قد انتهى. فقد بدا أن الضفادع العسكريين، مثل السفينة في عرض البحر والطوافات، كانوا يتّجهون شيئاً فشيئاً شمالاً. الأرجح أنهم يفعلون ذلك متّبعين التيارات البحرية التي تتجه على الدوام هكذا، حاملةً معها حطام الطائرة وجثث الغرقى. تسأل أحد عناصر الجيش إن كانت ملاحظتك في محلها، فيؤكد ذلك. الساعة الثانية من بعد الظهر. يتوالى إقلاع الطائرات المدنية من مطار بيروت. تراقب إحداهن وهي ترتفع تدريجاً في الهواء. تراقبها حتى تختفي. رجال الضفادع البشرية ما زالوا يراكمون أغراضاً مكسورة وبقايا ينتشلونها. تقترب لتفحص الكرسي الأخير الذي انتُشل، فتلمح عبارة مكتوبة باللغة الإثيوبية الدائرية على قفاه، وقد كتب تحتها ما هو لا شك ترجمتها باللغة الإنكليزية: «سترة النجاة تحت مقعدك».