الرحلة 409 ليل الأسئلةبسّام القنطار
إنّه صالون الحزن الذي كان له شرف استقبال عائلات ضحايا الطائرة الإثيوبية المنكوبة. أهل السياسة حاولوا ابتكار وسائل المواساة، في ظلّ شعور عميق بالعجز عن القيام بأي شيء. أما أهل الإعلام، فحاولوا التماهي مع أهل الضحايا بحثاً عن لقطة أو تصريح كان بالكاد يخرج من الشفاه المتحسرة.
عند الساعة 2.37 صباحاً بتوقيت بيروت، كانت بداية المأساة لركاب الرحلة رقم ٤٠٩ التي تقلّ ٩٠ شخصاً على متن طائرة من طراز بوينغ 737 ـ 800 متّجهة إلى أديس أبابا.

في تلك الساعة، اختفت الطائرة عن شاشات الرادار في مطار رفيق الحريري الدولي، بعد نحو خمس دقائق من إقلاعها وسط عاصفة رعدية وأمطار غزيرة وأمواج عاتية.
وبحسب الجيش اللبناني، فإنّ الطائرة انشطرت في الهواء «وشوهدت تندلع فيها النيران، ثم ما لبثت أن سقطت في البحر». وتراجعت الآمال في العثور على ناجين بعد نحو 12 ساعة من تحطّم الطائرة. وقال شهود عيان إنّهم رأوا نوراً «أضاء البحر كله»، و«كرة من اللهب» تسقط قبالة خلدة.
أرقام عديدة جرى تداولها حول العدد النهائي لمانيفستو الطائرة، لكن المعلومات الأكثر جدّيةً تشير إلى أنها كانت تحمل ٥٤ لبنانياً، بينهم ثلاثة مجنّسين في بريطانيا وروسيا وكندا، و22 إثيوبياً، إضافة إلى طاقم الطائرة وعدد أفراده 8، كما كان بين الركاب بريطاني وعراقي وسوري. كما أعلنت السفارة الفرنسية في بيروت أن مارلا بييتون زوجة السفير الفرنسي في لبنان ديني بييتون كانت ضمن ركاب الطائرة.
غالبية عائلات الركاب حضرت منذ الصباح إلى قاعة الشرف في مطار رفيق الحريري الدولي، التي غصّت بالوفود الرسمية والدينية المواسية، بينهم الرئيسان سعد الحريري ونبيه بري.
كيكيا حسين، الإثيوبية المفجوعة بألم فقدان شقيقتها سميرة (١٩ عاماً)، جلست في زاوية القاعة تعانق صديقتها، تبكي على ذراعها، باحثةً عمّن يشعرها بالأمان في غربتها. «هيدا مش بلدنا»، تقول باكية، وتتمتم جملاً غير مفهومة.
نسأل كيكيا عن سفارة بلادها فتقول «إنها لم تر أحداً ولم يطمئن بالها أحد». وإلى جانب كيكيا، جلست «غندت» تجهش بالبكاء أيضاً، ولغندت قصة أخرى مع الحزن على رفيقاتها اللواتي كنّ في الطائرة، لم تستطع أن تلفظ أسماءهنّ. كانت فقط تتمتم قائلة «يا ربي» وتجهش بالبكاء.
نواب ووزراء كثر زاروا المطار، لكن شحوب وجه النائب نوار الساحلي يوحي بقصة أخرى مع هذه الفاجعة. يقول الساحلي: «كنت عازماً على السفر على متن الطائرة إلى أوغندا للمشاركة في مؤتمر اتحاد برلمانات منظمة دول العالم الإسلامي، لكنّي عدلت عن السفر بسبب جلسة تعديل الدستور التي كانت مقرّرة في مجلس النواب اليوم. ويضيف: «نحن في حالة حزن على جميع الضحايا والأمر مؤسف. رحم الله من ماتوا. وفي النهاية، هذا هو القدر، ولا أحد يحدده سوى الله سبحانه وتعالى».
حالة الساحلي ليست فريدة. ثلاثة من الذين وجدوا في المطار كان يمكن قدرهم أن يوصلهم إلى قعر البحر. ومن هؤلاء حسن العزي الذي يعيش في الغابون. حسن قدم إلى لبنان في الأعياد. فجر أمس، حزم العزي أمتعته، لكنه في اللحظة الأخيرة عدل عن رأيه وأبلغ عائلته أنه لا يريد أن يسافر، وهكذا كان. تأجلت الرحلة التي كانت ستكون الأخيرة لحسن الذي فقد الكثير من الأصدقاء والأحباء. الحالة نفسها نجدها لدى يوسف خاتون، شقيق المفقود على الطائرة جمال علي خاتون (مواليد 1973). خبر وجود جمال على الطائرة استدعى اتصالاً من أنغولا لمعرفة ما إذا كان شقيقه يوسف معه أيضاً، لكن الأخير كان هو من يجيب عن الاتصالات ويتلقى المواساة بفقدان شقيقه.
لائحة المانيفستو الطويلة تضمّ أسماء ثمانين راكباً، ولكلّ اسم قصّته
لائحة المانيفستو الطويلة تضمّ أسماء ٨0 راكباً. كل اسم له قصته. عائلة المفقود زياد نعيم القصيفي (مواليد 1974) توزعت بين المطار ومنزله في بلاط ـــــ قضاء جبيل، وهي كغيرها من العائلات انتظرت بخوف وقلق نتائج البحث عن المفقودين. يعمل زياد في أديس أبابا مهندساً في برمجة الكومبيوتر لشركة «سي آي أس» منذ حوالى سنتين. لم تكن الرحلة الأولى لزياد إلى إثيوبيا، لكنها كانت الأولى التي يغادر فيها من دون زوجته تانيا العتيق وابنته جاين لأسباب تعود إلى أن الزوجة حامل. لكن شقيقته كارولين حاولت عبر اتصال هاتفي أمس إقناعه بتمديد إقامته في لبنان التي بدأت مع عطلة عيد الميلاد عندما لاحظت عدم ارتياحه، فوعدها بأن تكون هذه رحلته الأخيرة، وأن ينهي أعماله في الخارج ويستقر نهائياً في لبنان إلى جانب عائلته.
رئيس بلدية زوطر رياض اسماعيل وكثر من أفراد العائلة كانوا بانتظار معرفة مصير ابنهم ياسر عبد الحسين اسماعيل (مواليد 1973). يسأل رياض بغصّة: هل يستحق هذا الوطن أبناءه؟ ويضيف «لو بيستاهلهن، ما كانوا هاجروا على آخر الدنيا ليكسبوا لقمة العيش. كان ياسر متجهاً إلى أنغولا مع ١٦ شخصاً غيره يعملون في هذا البلد. لم يكفّ عمّه رياض عن سؤال المارّة عند مدخل القاعة الرئيسية لصالون الشرف: ما فيش طيبين؟ شو الوضع؟ خبّروني. سؤال لم يكن أحد يملك الإجابة عنه.
غصّة رياض اسماعيل وحرقة قلبه الهادئ، لم تشبه غصّات أخرى في «صالون الحزن». والدة حسين موسى بركات (مواليد 1983) الذي احتفل بعيد ميلاده منذ أسبوع، كانت أكثر غضباً في طرح مطلبها. وللوالدة المنكوبة أسبابها: «لازم يلاقوه لحسن. أنا حطّيت التذكرة بجيبتو وسكّرت السحاب بإيدي. الباسبور بالشنطة، بس الهوية بالجيبة. قولولي وينو حسن وبروح على بيتي. ما بدّي ضلّ هون يا أمي. وينك يا حسن؟ وينك يا ابني؟ إذا كان حزام الأمان محطوط، كيف بدّو يخلّص حالو؟ وينك يا حسن، عريس راح عريس.
غالبية ركاب الطائرة هم من أبناء القرى الجنوبية، النبطية وجوارها فجعت بأكثر من ١٧ راكباً، وكذلك الأمر في قرى بنت جبيل وصور.
حسن كمال إبراهيم (مواليد 1973)، ابن بلدة عيناتا، كان متجهاً إلى زائير. عائلته التي حضرت إلى المطار كانت تتلقى المواساة من ابن البلدة النائب حسن فضل الله. «الدولة كلها بالبحر يا سيّد، بدك تدعي وتطول بالك الله يفرجها علينا جميعاً»، يقول فضل الله مواسياً والد حسن وأعمامه الذين تحوّلت عيونهم إلى برك من الدم من كثرة البكاء.
في إحدى زوايا القاعة، جلس عصام برجي يبكي أصدقاءه الكثر الذين كانوا على متن الطائرة، ومن بين هؤلاء سعيد عبد الحسن زهر (مواليد 1984). عصام قدم إلى لبنان في الأعياد، ولم يقرر السفر بعد. يخبر عصام الكثير عن الخطوط الإثيوبية التي تتأخّر دائماً في عملية الإقلاع لعدة ساعات. «في إحدى الرحلات انتظرت ١٠ ساعات في مطار أديس أبابا، لكن هذه الخطوط هي الوحيدة التي تعمل بانتظام بين أفريقيا وبيروت»، يقول برجي الذي سهر مع زهر مساء أول من أمس، فأخبره الأخير عن سعادته بأن زوجته حامل. أخبره كثيراً عن حلمه بأن يرزق بمولود، وكيف عاش حياته يتيماً لم يتعرّف على والده الذي توفّي قبل أن يولد، وكيف يسعى إلى تأمين سعادة عائلته وابنه بعدما حرم هو منها.
هيثم جمعة، المدير العام لوزارة المغتربين، تجوّل بين أهالي الضحايا، مبدياً حذره من التسرّع في إذاعة أسماء الذين عثر عليهم «كي لا نكرر الخطأ الذي ارتكبناه في أثناء تحطم طائرة كوتونو». ولأهل الجنوب قصة طويلة مع طائرة كوتونو التي يعتقد بأن سبعة من ركابها لا يزالون في عداد المفقودين.
الدكتور علي أسعد، مسؤول الجالية اللبنانية في أنغولا، أمل أن يتم التحقيق جدياً في الحادث لمعرفة الأسباب، وأن يجري الاهتمام بأبناء الجالية اللبنانية في القارة الأفريقية الذين يعانون كثيراً في أثناء التنقل بين الدول للوصول إلى لبنان.
بدوره، قال وزير الخارجية الدكتور علي الشامي لـ«الأخبار» إنه اتصل بالسفير الفرنسي لمواساته بفقدان زوجته مارلا بييتون التي كانت على متن الطائرة». وبحسب الشامي، فإن السفير الفرنسي «يعيش لحظات حزن شديد ويغلق الغرفة على نفسه». كذلك أجرى الشامي اتصالات بالسفارات التي لديها رعايا على الطائرة، وهناك فريق عمل لإبلاغهم بأي جديد فور العثور على أحد رعاياهم.


أهل الركاب يغرقون في بحر الشائعات

راجانا حمية
سرعان ما انتشرت، أمس، شائعات تفيد بنقل الجثث بعد تجميعها في القوارب إلى «برادات الموتى» في المستشفيات القريبة من المطار. وبدأت الشاشات «تتكهّن» بأسماء المستشفيات. فواحدة تقول مستشفى بيروت الحكومي، فيما الأخرى تسمي مستشفى الطبابة العسكري التابع للجيش اللبناني، وثالثة الرسول الأعظم والزهراء. ثم بدأت الأخبار تتلاحق عن وصول جثة مقطوعة الرأس إلى بيروت الحكومي، وستّ أخريات إلى الطبابة العسكري. هنا، غاص المفجوعون في بحرٍ من الأخبار، المتضاربة في غالبية الأحيان، فما عادوا قادرين على التركيز على وجهة سيرهم التالية بعد المطار.
أمام مستشفى بيروت الحكومي، تجمّع العدد الأكبر من الأهالي، ربما لأن وزير الصحة أعلن نقل الضحايا إليه، فيما هرع الآخرون إلى «تفقّد» المستشفيات الباقية، لعل وعسى. وأمام مستشفى الطبابة العسكري، وقف محمد وزوجته أمام الباب الرئيسي، يحاولان عبثاً إقناع الحارس بالدخول للسؤال عن ابن عمه. فقد قالوا له إن «سيارة الإسعاف نقلته إلى هنا». لا يصدّق الرجل كلام الحارس الذي كان يقسم أيماناً مغلّظة «أنه ما في حدا إجا لعنّا، والله كلها شائعات». لا يكاد الرجل يقتنع ويرحل بعيداً عن المستشفى، حتى يسمع صفارة إحدى سيارات الإسعاف، فيرتد عائداً إلى الحارس، قائلاً «معقول تكون جاي لهون». يهزّ الحارس رأسه بالنفي. هكذا، قضى حراس المستشفى يومهم. يقسمون للآتين أن «لا ضحايا هنا»، يقول العسكري الممنوع من ذكر اسمه.
تنتقل الشائعة إلى محيط السفارة الفرنسية. يذهب المستطلعون. يسألون «هل هناك معلومات جديدة عن زوجة السفير؟». يأتي الجواب «هنا، لا معلومات لدينا، هل في إمكانكم استطلاع الخبر الدقيق من قصر الصنوبر، مكان إقامة السفير؟».
إلى قصر الصنوبر. لا شيء هناك يوحي بأن الخبر صحيح. الباب مقفل، وبالكاد يجيب الحارس على «الإنترفون». أياً يكن السائل، سيكون الجواب: «من الأفضل أن تتصل بالمسؤول الإعلامي فرانسوا أبي صعب». نتصل بالمستشار التاريخي اللطيف للسفارة «لا معلومات لدينا»، يردّ الرجل بصوت يكاد يظهر أنه متجهّم.