في قاعة قصر الأونيسكو، تُعرَض صور لمدينة بيروت قبل قرن ونيّف. مدينة لا تشبه تلك التي يقطنها سكّانها اليوم، بل تشبه المدن المنتشرة على ساحل المتوسّط التي يزورها السيّاح لمشاهدة جمالها وتاريخها. قبل مئة سنة، كانت بيروت مجرّد مدينة صغيرة على الشاطئ، تشبه إلى حدّ كبير جبيل، لكن مع بداية عصر السلطان عبد الحميد الثاني، بدأ عهد التنظيمات، وتلك هي حقبة منسيّة من تاريخ بيروت، كما يقول الدكتور خالد عمر تدمري الذي نظّم المعرض الذي يضمّ مئة صورة منتقاة من مجموعة فؤاد دباس وأرشيف السلطان عبد الحميد في إسطنبول. ويشرح الدكتور تدمري «أن بيروت كانت من أصغر المدن الساحلية قبل حقبة السلطان عبد الحميد الذي قرّر تأهيلها لتدخل عصر التحديث. فجرى تكبير مرفأ بيروت ليتسع للبواخر الكبيرة، وخاصّة تلك التي تحمل المعدات الضرورية لإنجاز سكة الحديد لخط الحجاز. ولإتمام نقل هذه المعدات كان لبيروت قطاراتها الخاصة بها، خط يصلها بالشام. وأُنشئت في تلك الفترة شركة كهرباء بيروت، وأضيئت المدينة في 1874، أي قبل عام من إضاءة إسطنبول! وتأسّست في حينها شركة مياه بيروت، والبلدية التي عملت على تبليط الأرصفة والإنارة وتنظيم حركة السير والترامواي. كذلك بُنيت خلال تلك الفترة المخافر والمباني الحكومية والحدائق التي لم يبق منها إلا حديقة الصنائع».بيروت لم تكبر وتتطور بفعل ساحر، بل خُطط لها ورُسم تنظيمها المدني في إسطنبول، كما يؤكد تدمري الذي درس الأرشيف العثماني عن بيروت في تلك الحقبة. ويقول: «كان السلطان عبد الحميد يحب أن يتأمل إمبراطوريته، وأن يستعمل الإنجازات في تحديثها لإبراز قوتها أمام ملوك أوروبا، فيرسل إليهم صور الإنجازات والتحديثات. فكان المصورون يصلون إلى المدن ويؤرخون بعدساتهم إنجازات السلطان الذي احتفظ في قصر يلدز بـ35000 صورة تبرز كل التحديثات التي جرت في عهده في كل أرجاء الإمبراطورية. والمعروف أيضاً أنّ السلطان كان يحبّ أن يتمشى في قصره ويتأمل إمبراطوريته بامتدادها الواسع».
معرض «ذاكرة بيروت نهاية القرن الـ19 مطلع القرن الـ20»، الذي يدخل ضمن فاعليات بيروت عاصمة للكتاب، مستمر في قصر الأونيسكو حتى نهاية الأسبوع. المعرض يستحق أن يزوره تلامذة المدارس والجامعات لكي يروا بأم العين التغير الجذري الذي أصاب هذه المدينة وأودى بهويتها التاريخية. ويقول تدمري إن الهدف من المعرض هو «توعية الأجيال القادمة على التراث والتاريخ، لكي لا تمحى الهوية. فكبرى المباني في بيروت التي تُعَد أساسية وتمثّل عمودها الفقري مثل السرايا الكبيرة ومبنى البلدية... تعود إلى تلك الفترة». من 1876 إلى 1909 شهدت ولادة بيروت الحديثة التي عمل من بعدها سكانها على تدمير ماضيهم. فخلال الخمسين سنة الماضية، مُحيَت أجزاء كبيرة من هذه المدينة التي كانت بيوتها البيضاء تلامس البحر.
هذا ليس بحنين إلى الماضي، وليس طلباً بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لكنّ معرفة شكل العاصمة قبل مئة سنة فقط يغيّر نظرة المواطن إلى مدينته، ويعطيه شعوراً ببعدها التاريخي الذي إن ضاع في مجمله، فلا يزال يحتفظ ببعض من أبنيته.
جوان...