تشهد محكمة صور المدنية والجزائية ورشة تأهيل داخلية لإنجاز آلاف الدعاوى العالقة منذ سنوات. في اليوم الواحد تعقد أكثر من مئة جلسة بشأن قضايا متفرقة. رئيس المحكمة الجديد القاضي عرفات شمس الدين أطلق ورشة العمل... والسؤال عن الاهتمام بالمبنى
آمال خليل
قبل أشهر، فوجئت سلمى (اسم مستعار) ببلاغ من القوى الأمنية لإعلامها بأن عليها المثول أمام قاضي التحقيق في صور بدعوى قضائية مقامة ضدها. «عصرت» الصبية (26 عاماً) ذاكرتها لمعرفة الذنب الذي اقترفته فلم تتذكر. توجهت من منزلها قرب صيدا إلى المحكمة مصطحبة معها ابنتها البالغة من العمر تسعة أعوام. الطفلة، كما أمها، كانت تعتقد أن التبليغ وصل عن طريق الخطأ، فسلمى قد نقلت إقامتها من منطقة صور منذ تزوجت قبل عشرة أعوام ولم تعد تتردد إليها. وقفت أمام القاضي لتكتشف أنها ماثلة للتحقيق في دعوى سرقة هاتف خلوي من أحد المحال في المدينة منذ أكثر من عشر سنوات، علماً بأن صاحب الدعوى كان قد تنازل مباشرة عنها وحلّت «حبياً». لكن القضية لم تحل حينها في المحكمة التي أبقت ملف الدعوى مفتوحاً من دون متابعة جلساتها. ورشة «نفض» محكمة صور التي بدأت منذ تولي القاضي عرفات شمس الدين رئاستها إثر التشكيلات القضائية الأخيرة، استُدعيت سلمى لإقفال ملفها، ورغم إقفال القضية نهائياً، إلا أن عودة «جريمة» سلمى من الماضي، أثار حرجها أمام نفسها وطفلتها وزوجها الذي لم يكن على علم مسبق بالأمر. من ملفات «الأرشيف» أيضاً، أُخرج ملف ماهر في دعوى شيك بدون رصيد مرفوعة ضده عام 1993، واستُدعي لإنهاء القضية. أما الحاج أبو علي فقد استراح في عامه الخامس والثمانين من موعده المؤجل دائماً في المحكمة منذ عشر سنوات، وذلك لإقفال ملف دعوى الحق العام لتسببه بإيذاء أحد الأشخاص في حادث سير.

أسباب التأخير

اللافت أن الدعاوى الثلاث ليست من النوع المستعصي الذي يحتاج إلى وقت طويل لإنجاز التحقيقات وإصدار الحكم فيها. تحتاج دعوى الشيك بدون رصيد على سبيل المثال إلى استجواب لدقائق من جانب القاضي قبل أن يصدر الحكم فوراً. فلماذا «تتعتق» الدعاوى في محكمة صور ولا يطلق سراح أصحابها برغم مرور الزمن؟
على القاضي الجديد وفريق عمله أن يعالجوا تركة السنوات وينظروا في نحو عشرة آلاف ملف
يقر موظف في المحكمة بأن «لا عذر لأحد بعدم البت في قضايا الناس العالقة منذ سنوات»، ويضيف أن حال الخزائن التي تتكدس فيها الملفات التي تعلوها الغبار، قد يدين جميع المعنيين. فقد ترك عام 2008 لخلفه 5178 قضية تحتاج للنظر فيها قبل إصدار أحكامها. ثم جلب العام المنصرم قضايا بلغت حوالى 3500 بين القضايا الجزائية والمدنية. هذا بالإضافة إلى حوالى ألفي قضية كانت قد حوّلت إلى جلسات إصدار الأحكام قبل نهاية عام 2008 لكنها لم تنجز. وفي المحصلة، كان على القاضي الجديد وفريق عمله أن يعالجوا تركة السنوات الثقيلة وينظروا في نحو عشرة آلاف ملف، أقفل منها نهائياً حوالى الألفين، فيما حُوّل معظمها إلى جلسات الاستماع تمهيداً لإصدار الحكم.
بالنظر إلى الأسباب التي جعلت من المحكمة أرشيفاً لدعاوى الماضي غير المنجزة، يتبين أنها أحياناً أعذار أقبح من الذنب عينه. يقول الموظف إن رئيس المحكمة «هو من يلعب الدور الرئيسي في تحريك عجلة الأحكام من خلال التزامه بالحضور وعدم تغيبه عن حضور الجلسات التي ستؤجل في حال غيابه، وأن تكون علاقته مباشرة بالموظفين لمتابعة سير الدعاوى والأحكام».
خلال السنوات الماضية كانت تتلخص أسباب التأخر في إصدار الأحكام القضائية باختصاص قاضيين اثنين فقط في المحكمة، وبتقاعس البعض عن الالتزام بمواعيد جلسات إصدار الأحكام وتأجيلها غير المبرر والتأخر بإصدارها خلافاً للقانون. تقاعس القضاة كان يلتقي مع مماطلة بعض المحامين في إنجاز الدعاوى حتى إصدار الحكم فيها للاستفادة مادياً أكثر من موكليهم. ثم يأتي دور القوى الأمنية لتزيد التأخير عبر تلكّئها في تبليغ الدعاوى ومواعيد الجلسات للمدعين والمدعى عليهم. فضلاً عن الإجراءات الروتينية في القانون اللبناني التي لا تزال سارية منذ عقود مثل القوانين العقارية التي شرعت عام 1926 ولم تعدل حتى اليوم.

محكمة أم بلدية؟

تلحق محكمة جويا بمحكمة صور ليكوّنا دائرة عدل واحدة في القضاء يرأسها شمس الدين. وتصبح محكمة صور مسؤولة عن القضاء والعدل في مدينة صور وقضائها، إلى جانب اختصاصها بثلاثة مخيمات كبرى وبستة تجمعات صغرى فلسطينية. ويختص شمس الدين بالنظر في الدعاوى المدنية والأحوال الشخصية والمالية والعقارية ودعاوى الحق العام ومحكمة السير وتنفيذ الأحكام. أما مساعده القاضي وسيم إبراهيم فينظر منذ سنوات بالدعاوى الجزائية والحق الشخصي.
حجم المهمات في محكمة صور لا تتناقض مع حجم القضاة فحسب (اثنان بدلاً من أربعة قضاة بحسب الحق القانوني)، بل مع عدد الطاقم الوظيفي والإداري. فالتشكيلات القضائية الأخيرة أعطت حصة قاض واحد لصور وثلاثة آخرين لمحاكم الجنوب عامة من أصل مئة وسبعة قضاة جدد. لكن قلة الموظفين في صور مشكلة مزمنة لم تلحظها إجراءات وزارات العدل المتعاقبة. فالمحكمة التي يحتاج كل من قسميها المدني والجزائي إلى ثلاثين موظفاً على الأقل، يتابع مهماتها 18 موظفاً هم رئيس قلم ورئيس مصلحة ومباشر واحد وثلاثة رؤساء كتبة ومحرران اثنان وستة حُجاب وأربعة أُجراء!
رغم قلة عدد الموظفين، إلا أن المكان يضيق بهم وبالمراجعين وبعناصر الحماية الأمنية. فالمحكمة ليست مبنى مستقلاً بذاته، إذ إن مكاتبها تشغل الطبقة الأولى من مبنى ملكيته خاصة وفيه عدد من الجمعيات والمكاتب التجارية والمهنية. وتتوج طابقه الأخير غرف مفروشة! قاعة الجلسات على سبيل المثال عبارة عن غرفة كبيرة غيرة مجهزة ومقسمة بين قوس المحكمة ومقاعد الحاضرين. أما غرفة الكاتب فتُعدّ مخزناً لآلاف الملفات التي تحفظ بطريقة عشوائية على رفوف، بسبب النقص في الخزائن وضيق المكان. لا تُعتمد في هذه المحكمة المكننة الإلكترونية أو الفاكس، كما تفتقد لآلة تصوير بعد تعطل الآلتين قبل وقت طويل من دون تصليحهما.
الحماية الأمنية تقف عند مكاتب القاضي والموظفين. علماً بأن رئيس جهاز أمن السفارات والإدارات العامة كان قد أصدر قراراً عام 2009 يقضي بسحب قوى الأمن من المؤسسات لعدم وجوب أسباب الحماية. الأمر طبق على محكمة صور التي جردت من الحراسة الأمنية، ما حدا بشمس الدين إلى المطالبة باستعادتها منذ توليه منصبه وتنسيقه الدائم مع مخافر الدرك في القضاء وفصيلة العباسية في التبليغات واعتقال المطلوبين.


في حارة الشجعان... بيت للقضاء

في أول جلسة لشمس الدين ترأسها بعد تسلمه مهماته في محكمة صور، تغيّب المدعون والشهود عن الحضور، تأسياً بما عهدوه من القضاة السابقين الذين اعتادوا تغيبهم. يقول البعض إن جيران المحكمة شجعان (نسبة إلى حارة الشجعان المحيطة بمبنى المحكمة)، «لذا فهم لا يحتاجون إلى القضاء بل يأخذون حقهم بذراعهم». البراهين كثيرة على ذلك في الحارة وجوارها حيث تُسجل بين الحين والآخر مداهمات عدة مشتركة بين الجيش اللبناني وقوى الأمن بحثاً عن مطلوبين في جرائم مختلفة أو ضبطاً لمشكلات وعراك يحصل بين بعض سكانها. ويؤكد البعض أنه «ليست المشكلة في أن أهالي الحارة أو مثيلاتها في صور ومخيماتها هم من لا يتهيب المحكمة، بل إن القضاء وممارسات قضاته هما اللذان أفقدا الثقة بعدالته». لكن الأمر لا يبرر بنظر الكثيرين خطوة إحدى أمهات الحارة التي طعنت رجل أمن جاء ليعتقل ابنها المطلوب للقضاء في عيد الأم في العام الماضي.